تفرض الكنيسة بين فترة وأخرى فترات صوم على المؤمنين، ويقبلها الناس عادة إطلاقاً من أن الكنيسة أم ومعلمة وتلتزم بمسؤولية تقديم حياة مسيحية يقتدى بها. لكن ما هي أهمية الصوم في حياتنا؟ وكيف يمكن أن يتميّز صوم المسيحي عن غيره الذي يُقّدِم أيضاً صوماً (المسلمين ورمضان)؟ هذا ما سنحاول طرحه في هذا اللقاء.
الصوم: هو الامتناع عن الطعام والشراب، أو عن ما يفضله الإنسان لمدة محدودة ولغايات معينة. ويختلف الصوم الديني عن غيره من الأصوام (قبل العملية الجراحية، الريجيم...) في أنه فعل رمزي له علاقة بكوننا في عهد (علاقة) مع الله. لذلك يتجه الصوم الديني نحو الله وليس نحو الإنسان. والإنسان يحرم نفسه مما يريده ويرغبه حراً جواباً لمبادرة الله في حياته. الإنسان - حاجات
يُولد الإنسان وفيه رغبات وحاجات تُريد أن تُكَّمَل هنا والآن وبشكل تام. يجوع فيحتاج إلى طعام فيبكي لتأتي أمه وتُكمِّل حاجة الأكل. وهكذا العطش والدفء. وكلما كَبُرَ الإنسان تعددت حاجاته أكثرَ فأكثر. فيتصور إنه له الحق دوماً في تكميل حاجاته دوماً وبشكل تام. ويتصوّر بنفس الوقت أن العالم كله في خدمة حاجاته. وتكميل الحاجات لايأتيه دائماً بشعور من الراحة والإطمئنان فيعتقد أن ذلك هو طبيعي جداً (أن يحتاج وأن تُكّمل حاجاته).
هناك ظاهرة أخرى علينا أن نلاحظها وهي فعل الأكل الذي هو وسيلة في إتمام الحاجات، فيلتهم الإنسان (الطعام) ويُدخله إلى نفسه ليبقى فيه ويُشبعَه، يريحهُ وهكذا يُكّمل حاجاته. فليس من الغريب إلى أننا نحاول في حياتنا التهام كل ما نريد ليكون جزءاً منا، فينا، ولنا وحدنا. ولكن لنتبه، فالإنسان يُلغي، يدمر ما يأكله، لا يبقى له وجود. كل شيء يُمحى، يُفنى ويبقى هو وحده فقط. فليس من الغريب إذن إننا نجد في بعض القبائل البدائية أن الإنسان يأكل لحم أعدائه بعد قتلهم رمزاً للانتصار عليهم، لفنائهم، تدميرهم. وهكذا يبيد كل شيء يقف أمامه. ويُكمل حاجته ويُدمِّر الحاجة في نفس الوقت. فهو أي المقاتل يشعر بالخوف من جراء تهديد العدو، وهو يحتاج إلى الأمان وهكذا يحارب ويجاهد إلى أن يقضي على العدو وفي نفس الوقت يمحي كل قوى الشر نهائياً. المهم في حديثنا هو فعل الأكل، ففيه يُكمّل الإنسان حاجة، ولكنه في نفس الوقت يدمّر ويفني ما هو خارج عنه ليكون هو فقط. فالإنسان يحب نفسه فقط ولا يرغب إلا راحة نفسه وإطمئنانها.
الإنسان - حاجات - الصوم: إذا كان الإنسان يحيا من خلال الشعور بالحاجات واتمامها، واذا كانت هذه كلها من فطرة الإنسان، فأين الخطأ فيها؟! الخطأ عادةً هو في موقف النسان تجاهها. فالانسان يتصور أن له الحق في أن يفني كل شيء من اجل راحته هو، إشباع رغباته هو، وهكذا يبقى هو السيد، المتسلط المطلق. تجارب الشيطان ليسوع، بينّت لن أن في الإنسان رغبة السيادة، التزعم، التسلط، أن يُحمل على الأكتفا متعالياً على الجميع. فيأتي الصوم ليُعلّم الإنسان أن يتعامل بإنسانية مع ما حوله. أن يعرف قيمة الغذاء ويأكل لا من أجل الأكل فقط، بل ليحيا بإنسانية. نحن لا نعيش لنأكل بل نأكل لنعيش. فليس الصوم رفضنا لإدخال كمية من الطعام إلى بطوننا، إنما هو محاولة لتربية أجسادنا أن نتعامل بإنسانية مع ما هو حولها، فلا تلتهم، تأكل، تهضم الآخر وتُفنيه. بل تحاول أن تتعلق معه، تتحاور معه. (كُلنا يُلاحظ أننا نتعب كثيراً في تحضير مائدة الصوم دلالة لأهمية وقيمة الطعام في حياتنا في فترة يُفترض أننا لا نهتم كثيراً بالطعام). الصوم ظاهرة تُعَّلِم الإنسان كيف يُربى حاجاته وهو إنسان في وسط جماعة. الصوم يُذكِّر الإنسان أن لا يحاول جعل الآخرين (الطعام، الشراب، الناس) في خدمته، بل أن يكون إنساناً معهم ومن خلالهم.
الصوم المسيحي: ليس من الغريب إذن أننا نجد أن الكتاب المقدس يُفضل أصواماً إنسانية غير الانقطاع عن الطعام والشراب. أصواماً تُحرر الإنسان من سيطرة حاجاته ورغباته. أواماً تجعله رحوماً تجاه الناس، عادلاً معهم، محباً لهم. أصواماً لا تُرجِعه إلى ذاته والى تساميها، بل تجعله في علاقة مع الله. كُلنا سمع الرب يقول لنا بلسان إشعيا النبي:
أهكذا يكون صومٌ أردته يوماً واحداً يتضع فيه الإنسان؟ أم يكون بإحناء الرأس كالعُشبةِ وافتراش المسوح صوماً ولا يوماً يرضى به الرب. فالصوم الذي أريده. أن تحل قيود الظلم وتفك مَرابط النير ويُطلق المُنسحقون أحراراً وينزع كل ير عنهم أن تفرش للجائع خبزك وتدخل المسكين بيتم أن ترى العريان فتكسوه ولا تتهرب من مساعدة قريبك. (إشعيا 5:58-7)
ربنا يسوع لا يجعل للصوم أهمية ما لم يرافقه صلاة (الصوم والصلاة). الصوم المسيحي هو حضور الإنسان المصلي أمام الله، واستعداده لقبوله في حياته. وهذا يتطلب بالضرورة تقديم شهادة حياتية تميز المسيحي عن غيره. إيماننا ليس نظريات، فما فائدة معرفة عظائم الصوم، إذا لم يرافقه فعل توبة واهتداء إلى الله! سلوك مسؤول تجاه محتاج، فقير، مسكين، مظلوم.
نعرف جيداً قيمة وأهمية الغذاء ونعي أيضاً أن الانقطاع عنه يؤدي بنا إلى الموت. فالصائم يرغب الموت عن الحياة ليولد لحياة جديدة. فينقطع عن الخطايا (الحسد، الجشع، الكبرياء، الكراهية، النفاق) ليولد إنساناً (محباً، متواضعاً، خدوماً) للآخرين وليس لنفسه. يموت ويميت فيه الإنسان الذي يريد أن يسحب الكل لخدمته ومصالحه ورغباته، ليقوم مع يسوع المصلوب من أجل الآخرين. فالصوم مثل الصلاة ليس من أجلي ومن أجل مصالحي وفوائدي الشخصية، بل هو دائماً من أجل الله، الآخر. هكذا يقبل الصائم في رحلة الصوم هويته الأصلية: إنسان مكون على صورة الله. وتحاول الكنيسة أن تذكر المؤمن أن الصوم هو رحلة مؤلمة ومرهقة، لا بل مميتة مثل درب الآلام، ولكنها من أجل الوصول أن نسلم حياتنا بين يدي الله.
يعلم الصوم المسيحي أن الإنسان أن يأخذ موقفاً صحيحاً إزاء كل ما هو خارج عنه. الغذاء، العالم، الآخرين. لا يستملكم ويفنيهم، بل يقيمهم ويتعايش معهم.
الصوم - جواب الإنسان لحضور الله:
يسأل البعض هل يمكن أن أغير الله بصومي؟ أن أؤثر عليه ليبررني؟ نحن نؤمن أن الله هو الذي بادر إلينا، أحبنا فأوجدنا، هو البداية وليس نحن. جاء بيننا، ليكون واحداً منا. وتجاه ذلك نجاوب على هذه المبادرة بطاعة. ففعل الطاعة هو فعل إيمان في نفس الوقت: أن تؤمن يعني أن تقبل حضور الله وتظهر هذا الحضور في حياتك. أن تحيي هذا الإيمان بالأفعال، وإلا فهو إيمان ميت، فالإيمان والأعمال هما جواب الإنسان لحضور نعمة الله في حياته.
ولكن كيف يجاوب المسيحي لحضور الله في حياته؟ أن يدع الرب يدخل بيته: ها أنا واقف على الباب أقرع، فكل من يفتح (يطيع، يقبل) أدخل وأتعشى معه. أي أن ندع الرب هو يفعل فينا ومن خلالنا (يدخل، يتعشى). أن نترك مجالاً، فراغاً ليعمل. هنا تأتي أهمية الصوم في أن لا نملئ فراغنا هذا بأكل، بشرب، بسلوك أناني (حسد، طمع، جشع، كبرياء، نفاق) بل نتركه كله لكلمة الله. إنه - الصوم - حركة نحو الله، الآخرين، وليس حركة نحو ذاتي ورغباتي ومصالحي وفوائدي. أن نجعل أنفسنا في خدمة حاجات الآخرين وليس حاجاتنا فقط. إنه فعل محبة: حضور تام وكُلِّي للآخر. تحرر من الأنا ورغباتها، لأكون مستعداً لقبول الآخر في حياتي، وهكذا أكون مُطعِماً للجائع، ومُنصِفاً للمظلوم، وعادلاً مقاسماً خبزي مع آخرين. الصوم مدرسة تُعلّم الإنسان لا كيف يتجنب الخطايا (فهو مطلب أناني) بل كيف يُحب الآخرين. لا نريد إنسان معجزات، بل إنساناً يشهد لحب الله في حياته، ويقدمه عطية مجانية للآخرين. يُعلمنا الصوم أن نقبل ذواتنا مثلما هي، وأهم من ذلك نقبل مسؤولية الآخرين: فلا نهتم بالأكل والشرب (الذي هو اهتمام الأنا)، بل انقطع عنه والتفت إلى الآخرين.
الصوم - الأفخارستيا: الصوم الكبير فترة مميزة في السنة الطقسية الكنسية. كانت وما زالت فترة تعليمية، تحضيرية لقبول فصح يسوع وقيامته. قدمتها الكنيسة للموعوظين لتُعلِّمهم مبادئ الإيمان والاستعداد الصحيح للعماذ ثم الأفخارستيا.
قبل لحظات قلنا: على الإنسان أن لا يتعامل مع العالم عن طريق الفم فقط والأكل. وها نحن الآن أمام حقيقة: ضرورة أكل جسد المسيح. فكيف يمكن أن نوَّفق بين هذين المفهومين؟ الفرق واضح للمؤمن المسيحي في أن الآكل الأول هو من أجل جسده، ذاتي، حياتي وينتهي كل شيء بهضم الأكل. في حين أن الأكل الثاني (الأفخارستيا) هو مسؤولية. فأنا استقبل في حياتي يسوع المسيح. عطية الله للإنسانية. وهو مسؤولية إذ تجعلني أُدخل إلى حجياتي مَنْ أعطى ذاته، وأقبله ليُحيِّي إنسانيتي وهو يدفعني إلى أن أقدم ذاتي خدمة للآخرين.
أحاول بالآكل الجسدي أن أجعهل نفسي مركز الخليقة، وأصوم لأُعيد كل شيء إلى مكانه. في حين أن في الأكل الأفخارستي أجعل يسوع هو مركز (لب) حياتيومنه وفيه أحيا. هو طعامي وقوتي في رسالتي المسيحية بين الناس. هو أمني وسلامي واستقراري وراحتي (شينن وشلاومن).
فلن يكون الصوم حرماً من أجل الموت، بل استعداداً احتفالياً لقبول القيامة. قيامةً تُمجِّد أجسادنا وتعطيها قيمتها الحقيقية، تلك التي جعلت الله يتجسَّد، يأخهذ جسداً ليتعلق معنا، ويظهر لنا قبوله لنا. فلا ترفض الغذاء بل نتقاسمه بفرح مع آخرين. إنه فعل إيمان تُرافقه صلاة تدعو الله ليأتي إلينا. كما يشاء ومتى ما يشاء. صلاة تلتقي الله، الله الأقرب إلى نفسي مني. الله الذي فيه تستريح نفسي. لا يعني هذا إنه مُخدِّر لأعصابي، فأنا لا أصلي كي أستفيد شخصياً. الصلاة هي من أجل الله. الصلاة مثل الصداقة، ليست من أجلي بل هي لكلا الطرفين، وإذا ما عشناها حقاً عندها سنجني ثمارها. صومنا، صلاتنا، هو جوابنا، وفتحنا لباب حياتنا ليدخل الله إلينا (رؤ 20:3). الصوم والصلاة ليستا واجباً، بل هما ظاهرة طبيعية لمن هو في علاقة مع الله. لا أحد منا يقدر أن يصلي من تلقاء نفسه، لا أحد يقول أن يسوع المسيح ربٌّ إلا بالروح القدس (1قور3:12) إنما الآخر الذي هو فينا يبادر فينا لنصلي. نرغب في الصلاة. الرغبة في الصلام هي صلاة نفسها. إنها فعل الله يعطيها فقط عندما يريد، وحينما يريد وكما يريد.
الصوم والصلاة هي أن تسمح لله بأن يشغل نفسه فينا، ونحن مستعدون تماماً لذلك. الصوم هو أن تفرَّغ لله مكاناً في حياتك، والصلاة قولك نعم واستقبالك لله ليملئ هذا الفراغ. أن ندع إذن مكاناً لله، نضيِّفَه فيه. وهذا دوماً من خلال استعدادنا لخدمة الآخرين. لا لأسباب نفسية واجتماعية أو فلسفية. بل لأننا مكونون على صورة الله. الله هو الأول الذي يخدم الآخر، يخرج من ذاته نحو الآخر، ينسى ذاته من أجل الآخر، يموت من أجل حياة الآخر.
من يقف في صف كنّا وآغجان فأنه مشارك في تهميش وإستلاب حقوق الكلدان