تأملوا يا ابناء الكلدان في هذه الصور، وتسآءلوا، حفظكم الله، أهذا طقسكم؟ وإن شئتم فاسألوا آباءكم الراقدين في اضرحة مهيبة في ذلك الهيكل المقدس: مار يوسف اودو البطريرك المناضل، والانبا شموئيل جميل العلامة، والانبا داديشوع الاصيل الغيور، وتحققوا منهم: أهذا بحق السماء طقس كنيسة المشرق؟ أهذا الذي ترون انماءٌ للطقس ام تحريف له؟ أهذه اصالة ام إستجداء؟ أهذا تقليد رسل المشرق ادّي وماري ام تِرحال عن التاريخ الذاتي وضيعان في المتاهات الاجنبية؟
أهذا هو الاصلاح الطقسي الذي مَحَصَهُ تفصيلاً وصَوّت عليه السينودس الكلداني وختمه بتواقيع الاساقفة واحداً واحداً، كما راجعه ثم ثبّته الكرسي الرسولي بوثائق رسمية، أم إنّ ما ترى في هذه الصور فذلكات استجلبها الدخلاء وعبرّوها على النجباء من ابناء كنيستنا، وآسفاه، وهي كنيسة ذات تراث عريق هو مفخرة الكنائس طراً وإغناءٌ لروحيتها قاطبة؟ كما ترى، أخي، فقد استحوذ الدخلاء على بيتك وجعلوك مستجدياً منهم وانت ابن الامراء والمؤتمن على خزائن الروح.
ومع كل ذلك فأحْبسْ دمعك يا أخي. وأذا كان الزمان قد ظلمك فلا تظلم انت نفسك، بل طالب بحقك بتطبيق الاصلاح القانوني الذي وفَّرَته لك كنيستك حسب كافة الاصول الشرعية والتوجيهات الرسولية- وعلى هذا الاصلاح إبنِ برجاً بابلياً من طبقات الغنى الروحي، على بركة السماء.
فاقرأ شرحا لاهوتيا للقضية التي تخص الموضوع في المقال التالي، ثم تابعه إن شئت في مقال تفصيلي لاحق:
بين المائدة والمذبح
بقلم د. المطران سرهد يوسپ جموّ
إن الأفخارستيا المسيحية إكمال وإتمام لمعاني الفصح الكتابي ورموزه، والعشاء الرّباني الأخير، وصلب المسيح وموته وقيامته إنما تمت في اطار الإحتفال بالفصح اليهودي، واستكمالاً له. ولذا كي نتفهم الأفخارستيا المسيحية، لا بدّ لنا من العودة الى الفصح الكتابي ومراسيمه، سواء كما وردت في تأسيسه عند الخروج من مصر (خروج 12/1-11؛ احبار 23/4-8؛ عدد 9/1-5؛ 28/1-25)، أو كما تبلورت عبر الأجيال بعد قيام الهيكل في اورشليم، 4 ملوك 23/ 21-23؛ 2
أخبار 35/1-19؛ تثنية 16/1-8؛ 2 أخبار 30/ 13-20)، مستذكرين هنا أهم عناصرها، خصوصاً على عهد المسيح الرب.
العشاء الربّاني والفصح اليهودي:
إن رتبة الأحتفال الفصحي، إبان حياة المسيح، لها قائمتان: الأولى موقعها الهيكل الاورشليمي حيث تذبح الحملان الفصحية، ويقربها الكهنة على المذبح امام قدس الاقداس قبيل وحتى غروب الشمس مساء 14-15 نيسان، اذ يُقدَّم موعد تقريب ذبيحة المساء اليومية (خروج 29/ 38-42؛ عدد 28/ 1-5) سويعات قليلة لإفساح المجال لتقريب الحملان الفصحية قبل الغروب. أمّا القائمة الثانية، فموقعها في العائلات حيث تأكل كل مجموعة عائلية في بيتها، بعد الغروب، وحسب المراسيم الطقسية، الحمل الذي يكون قد ذُبح وقربّه الكهنة في الهيكل باسمها.
أن الاناجيل الإزائية (متى، مرقس، لوقا) متّفقة على أن العشاء الربّاني الأخير عشاء فصحي، وأنه تمّ في إطار وأصوليات ومراسيم هذا العيد، مساء الخميس عشية الجمعة (14-15 نيسان)، المدعو “يوم التهيئة” لأنه يسبق مباشرة أسبوع الاحتفالات اللاحق (15-21 نيسان) والمدعو “عيد الفطير”. أما صلب المسيح فيكون قد تم مساء اليوم التالي، الجمعة، عشية السبت، الذي وافق فيه ذلك العام اليوم الأول من عيد الفطير.
أما انجيل يوحنا (بناء على 18/28) فيتفق مع الازائيين على ان موت المسيح على الصليب تم مساء الجمعة، إلا ان ذلك عنده يتزامن مع تقريب الحملان الفصحية في الهيكل، فيكون عشاء يسوع الاخير مع تلاميذه قد تم، حسب يوحنا، في اليوم السابق لعيد الفصح، لا متزامناً معه.
ومع ثبوت هذا الاختلاف في الرواية بين يوحنا والإزائيين، الأمر الذي لا يزال موضوع درس ونقاش لدى الباحثين، فمن الثابت ايضا ان العشاء الأخير في الحالتين عشاء فصحي، مرتبط أساساً بموت المسيح على الصليب، وان ذلك إتمام تاريخي لما يرمز ويشير اليه ذبح وتقريب الحملان الفصحية في الهيكل، لأن “حَمَل فصحنا قد ذُبح، وهو المسيح”.(1 قور 5/7) وهو الحمل الفصحي الذي “لن يكسر فيه عظم” (يو 19/36، خروج 12/46)، فضلاً عن انه “حمل اللـه” (يو 1/35) أي الذبيحة الكاملة المرضية لدى الله كفّارة عن خطايا الانسان.
وهكذا يمكن القول إن احتفال يسوع وتلاميذه بالعشاء الفصحي، انما تم في إطار المراسيم البيتية لأن المحتفلين به كانوا يتممون القسم العائلي من الفصح الذي موقعه مائدة العشاء. إلا ان هذا القسم من الاحتفال مرتبط ومتصل جوهريا بما يكون قد تم قبل ذلك في الهيكل. فليس هناك، على عهد المسيح، مفهوم لحمَل فصحي لم يذبح في الهيكل ولم يقرّبه الكهنة على المذبح أمام قدس الأقداس، كما ليس هناك أفخارستيا مسيحية لا ترتبط بالجسد “الذي يُكسر ويبذل من أجلكم” “والدم الذي يُراق من أجلكم” (لوقا 22/ 19-20) لمغفرة الخطايا – والنتيجة إن الاناجيل الاربعة تقدّم مفهوماً لاهوتياً للمائدة وعشائها الرباني، متصلاً ومرتبطاً بلاهوت المذبح وقربانه الفصحي.
ألهيكل الجديد وبنيته:
إن الهيكل، بمعنى الموقع المخصص لعبادة الله، لم ينقضه المسيح قط. إن الذي نقضه الرب إنما هو الهيكل القديم (يو 2/18-22) فأقام المسيح على انقاضة هيكله الجديد، هيكل جسده الذي صلب على الجلجلة، وقام من القبر في اليوم الثالث. فالصليب والقبر الفارغ هما بُنية ورموز الهيكل الجديد الأساسية، حيث يتم استذكار فعل الخلاص وتجديده. وجسد المسيح، هذا الشخصي، يمتد في التاريخ، فيصبح كنيسة حيّة تعكس ذاتها ايضاً في بناء من حجارة، تتمثلّ فيه رموز ومواقع الهيكل الجديد من صليب وقبر فارغ.
وفي هذا الهيكل الجديد، قدس الأقداس باقٍ، إنما يتجلى فيه الحضور الإلهي في جسد ممجّد، والمذبح باقٍ إنما استُبدل قربانه، وستارة قدس الأقداس لم يخلعها الانجيل، إنما “انشقت” (مرقس 15/38 ومتى 27/51)، وقد انشقت من أعلى الى اسفل بدون ان “تخلع”، ولم تخلع لأن الفارق بين قدسية اللـه وعطب الانسان لم يزل قائما، إنما انشقت لكي تشير الى انفتاح الطريق بين السماء والارض والى استمرار هطول النِعم من عرش اللـه الى البشرية.
أجل، كان زمان، في مطلع تاريخ الكنيسة، تعذّر فيه بناء الكنائس من حجارة، فكان اجتماع المؤمنين في البيوت لإقامة الافخارستيا. والطابع المؤقت لهذا الترتيب واضح منذ البدء، إذ يقول كتاب أعمال الرسل: “وكان المؤمنون .. يلازمون الهيكل كل يوم بقلب واحد، ويكسرون الخبز في البيوت، ويتناولون الطعام بغبطة ودعة ..” (2/44-46). تلك حالة ومعادلة ممتدحة في وقتها، لكنها عسيرة الإستمرار في الواقع الحياتي والتاريخي، ولذا سرعان ما اضطرّ الرسول بولس الى وضع حد لها، إذ يدعو الؤمنين في رسالته إلى كورنثس، إلى الفصل بين العشاء العلماني وعشاء الرب، مبكّتا إياهم: “أفليس لكم بيوت تأكلون فيها وتشربون؟” (1 قور 11/21).
ومع تعذّر بناء الحجارة في مطلع تاريخ الكنيسة، فأسفار العهد الجديد، في شرحها للهيكل الجديد ولاهوته، تستخدم هندسة الهيكل الأورشليمي في مقطعه القدسي كمرجع وكنموذج رمزي للتعبير عن واقع الخلاص المسيحاني، ذلك “لأن المسيح لم يدخل قُدساً صنعته الأيدي رمزا للقدس الحقيقي، بل دخل السماء عينها ليمثُلَ الان في حضرة اللـه من اجلنا” (عبر 9/24): “ولما كنّا واثقين، إيّها الإخوة، بأنّ لنا سبيلاً الى القدس بدم يسوع، سبيلاً جديدة حيّة، منحها لنا في الحجاب، أي في جسده” (عبر 10/19-20) ومنذ العهد الرسولي حتى يومنا، يُدعى العرش الذي يستوي عليه الحمل الذبيح “المذبح” وليس “المائدة” (رؤيا 6/9؛ 8/3-5).
ولذا، ما إن سمحت الظروف التاريخية، حتى بنيت الكنائس، وأقيمت فيها المذابح، ونُصبت فيها الصلبان، يتوجه نحوها الكاهن والمؤمنون عند الصلاة والتقديس، وذلك منذ نهاية القرن الثاني الميلادي في بلاد الرافدين، في بنية وهندسة متميزة توفّر المجال المكاني لطقسيّات متماسكة الأجزاء، عميقة المعاني، منحدرة مباشرة من ليتورجية كتابية، حيث تجتمع في بنية موحّدة قائمتا رتبة الافخارستيا: رتبة المذبح ورتبة المائدة، كما تجتمع في التركيبة نفسها الذبيحةُ الفصحية السنوية بذبيحة الكفّارة اليومية. وكانت كنيسة ما بين النهرين اقرب الكنائس الى اصول المسيحية وجذورها الكتابية، فوضعت بعبقرية فذّة مراسيم المائدة ضمن مراسيم المذبح، وذلك لإن جسد الرب، الذي ذبح على الصليب والذي قام من القبر، هو الهيكل الجديد وهو مرجع مائدة الافخارستيا، وليس العكس صحيحاً.
ففي منطق ” العهد الجديد”، كما فهمه آباء كنيستنا، الذين يعترف لهم الباحثون إجماعاً بحساسية مرهفة تجاه الاصول المسيحية ومبادئها الرسولية، الهيكل باقٍ، وقدس الاقداس باقٍ، والمذبح باقٍ، والستارة باقية، وليس من داعٍ لخلعها بتاتاً، بل على العكس تماماً، إن بقاءها وانفتاحها الاحتفالي يوضحان، بأسلوب محسوس، معنى الإنفتاح بين السماء والارض.
إن ما يجري اليوم في الغرب اللاتيني، من ازالة الموقع المحدد لقدس الأقداس في الكنائس، وقلب اتجاه الكاهن من موقع الصليب والمذبح عند اقامة القداس الإلهي، ترتيب مستحدَث، لم يرد قط في قرارات او توجيهات المجمع الفاتيكاني الثاني، ولم تمر بعد فترة كافية لتقييمه؛ وهو إستحداث بعقب ثمانية عشر قرناً من التقليد الشامل المتواتر في الكنيسة جمعاء، أي منذ انتقال الإحتفال بالأفخارستيا في البيوت الى الكنائس؛ وهو إستحداث يعبّر عن ردة فعل مفرطة، تعقب ممارسة ليتورجيّة مفرطة في الكنيسة اللاتينية – حيث كان الكاهن – حتى المجمع المسكوني الأخير – يقف إزاء المذبح منذ بداية الرتبة التعليمية، ويتلو القراءات باللاتينية ووجهه نحو المذبح وظهره للشعب، وتلك مبالغة لا موضع لها في التقليد الشرقي عِبر الأجيال. وليس من الواضح إن كان هذا الإستحداث سيستمر طويلاً في الكنيسة الغربية، بل تدل المؤشرات على أن إعادة نظر في موضوعه أمر وارد في المراجع الكنسية العليا. ذلك لأن ضعفه الأساس بادٍ للعيان فهو يقلب العلاقة المنطقية اللاهوتية بين المائدة والمذبح، إذ يضع مفهوم المذبح ضمن مفهوم المائدة، ويعكس صورة للكاهن وهو يتحاور مع الانسان، والصليب من وراء ظهره، عوض أن يعكس صورة للكاهن وهو يتضرّع الى اللـه، بصفة الوسيط، من أجل الانسان.
وفي كل الأحوال، لا بدّ من الإنتباه الى أنّ تاريخ الليتورجيا الغربية وقواعدها ومسارها يختلف عن تاريخ الليتورجيا المشرقية وقواعدها ومسارها: فلكل من الليتورجيتين خلفيتها ورسالتها وإسهامها في إغناء الكنيسة الجامعة. ولا شك ان تبديل الهندسة الكنائسية في مشرقنا بحذف موقع قدس الأقداس وقلب الإتجاه في موقف الكاهن، عند تقديم القربان، لا اساس له بتاتاً في مفاهيم الليتورجيا المشرقية، وهو إقحام اصطناعي في ممارساتها الطقسية، يتضارب مع النص الليتورجي المتماسك الذي بلورته عِبر تاريخها. وتلك المفاهيم والنصوص والمراسيم مبنيّة على لاهوت متين القاعدة، متلاحم مع الكتاب المقدس، بل انها أقرب المفاهيم والنصوص والمراسيم اليه.
* يتبع هذا المقال مقال اخر مفصل عن القداس الكلداني للمطران الدكتور سرهد يوسب جموّ
من يقف في صف كنّا وآغجان فأنه مشارك في تهميش وإستلاب حقوق الكلدان