في ليل 18-19 تموز 1830، ظهرت العذراء مريم للمرة الأولى إلى مبتدئة شابة في جمعية راهبات المحبة اسمها "كاترين لابوريه".
لنترك القديسة تروي لنا الحادثة: " عند الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً، سمعت صوتاً يناديني باسمي استيقظت ونظرت من حيث يأتي الصوت وأزحت الستار فرأيت ولداً يلبس الأبيض، عمره بين الأربعة أو الخمس سنوات وقال لي: " انهضي بسرعة وتعالي إلى الكنيسة، العذراء القديسة تنتظرك!" ... تبعته، و كان ينشر النور حوله أينما حلّ.
كل الأنوار كانت مضاءة في كل مكان مررنا به. هذا ما أذهلني ولكن مفاجأتي الكبرى كانت عند دخولي إلى الكنيسة.... انفتح الباب الكبير بمجرد لمس الملاك له. ولكني لم أكن أرى العذراء. فقادني الصبي إلى داخل المعبد
بالقرب من كرسي الأب المدير (قرب المذبح) فسجدت هناك وبقي هو واقفاً بقربي. كنت أشعر بطول الوقت...
وأخيراً أتت الساعة، فأعلمني الملاك وقال: " ها هي
العذراء القديسة، ها هي !" فسمعتُ حفيف رداء من حرير يأتي من ناحية المنصّة... يأتي ويجلس على كرسي على درجات المذبح... شككت أن تكون العذراء ولكن الولد قال لي : " ها هي العذراء القديسة". يصعب عليّ وصف شعوري في ذلك الوقت أو ماذا كان يجول بداخلي... وكأني لا أرى العذراء. فردّد الولد: "ها هي العذراء القديسة ".
(كاترين لا تستوعب وتبقى على بعد). عندها علا صوت الولد وكأنه بنبرة رجل ...
حينها، نظرت الى العذراء القديسة وما كان مني إلاّ أن قفزتُ نحوها وركعت على ركبتيَّ على درجات المذبح وأتكأتُ يديّ على ركبتيّ العذراء. هنا، قضيت أجمل وأعذب وقت في كل حياتي... يستحيل وصفه...
قالت لي العذراء كيف يجب عليّ أن أتصرّف مع مرشدي وكيف أسلك في صعوباتي.
ثم قالت:الله يريد أن يحملّك رسالة. ستتحملين المشقات... سيقاومونك. ولكنكِ
ستحصلين على النعمة. لا تخافي. قولي كل شيء بثقة وبساطة... ثقيّ ".
ثم غرقت العذراء في حزنٍ كبير وقالت: "ستكون الأيام سيئة، سينقلب العالم
كلّه من جرّاء المصائب المتعدّدة. سيتعرّض الصليب للإهانة والإزدراء.
سيُرمى على ألأرض. ستجري الدماء. سيفتحون قلب سيّدنا من جديد. ستمتلئ الشوارع بالدم. سيكون العالم كلّه في الحزن." كنا لم تعد تستطيع العذراء أن تكمل والحزن اشتدّ على ملامح وجهها.
وأخيراً تكشف مريم لكاترين عن مشروعها لتأسيس جمعية جديدة للشبيبة. هذه الجمعية تسمّى اليوم: " الشبيبة المريمية في عائلة مار منصور"
وأضافت مريم :" تعالي إلى أقدام هذا المذبح. هنا، ستفيض النِعَم على جميع طالبيها بثقة وحرارة، كباراً وصغاراً.
وأخيراً ذهبت واختفت كخيال يتبدَّد. نهضت كاترين ورجعت إلى سريرها يرافقها الولد. "أعتقد أنه كان ملاكي الحارس، تتابع كاترين، وعندما عدت إلى سريري سمعت الساعة تدّق الثانية ليلاً. وبعد ذلك لم أعد أستطيع أن أنام".
في هذا الظهور الأوّل كان اللقاء حميماً بين كاترين وامّها السماوية. كانت العذراء الأمّ المرشدة لكاترين: قالت لها كيف تتصرّف في حياتها وكيف تتعامل مع الأب الروحي ومع مَن حولها. إنّ الإرشاد الروحي هو المرافقة في
الحياة المسيحيّة. الأقدم في الإيمان يساعد الأصغر في تمييز إرادة الله في حياته. الإيمان المسيحي ليس تديُّن ولا تطبيق قوانين ووصايا بل هو لقاءٌ مع القائم من الموت وحياةٌ مع الحيّ. لذلك كل مؤمن هو بحاجة الى معلّمِ حياةٍ متمرّسٍ بالمسيح. مريم تعلّمني اليوم ألاّ أسير في إيماني لوحدي.
"تعالي إلى أقدام هذا المذبح ..." في هذه الكلمات تدلّ العذراء كاترين الى الينبوع الذي يفيض بكلّ تعزية وفرح وسلام ورجاء... إنّها توجّهها الى المذبح... الى يسوع الذي يقدّم ذاته لأجلنا... قلبه المفتوح يكشف لنا حبّ الآب... العذراء تدلّني الى مَن التجئ اليه في عطشي ونحو مَن أُوجِّه كلّ محتاج يستنجد بي ويطلب مساعدتي.
المسيحي لا يقبل أن يكون هو الحلّ والسند لأحد. بل إنّه الجسر الذي يوصل الى المسيح، المخلّص الوحيد. وهذا الدور هو جوهر شفاعة مريم ووساطتها. لا تقف العذراء بيني وبين المسيح لأتعامل معه من خلالها بل هي تعمل كي يصل كلّ أبنائها الى اللقاء الشخصي بإبنها الوحيد. وصورتها وهي تحمل العالم وتقرّبها إلى ابنها أفضل تعبير عن هذا الدور الأمومي.
كانت العذراء مريم كالأمّ الحنون التي تحمل هموم البشر، وتهتمّ بخلاصهم،وهي تعرف أنّ لا خلاص من دون ابنها يسوع الذي حمل هموم الإنسان على كتفيه حتى الصليب. حنانها الأمومي انعكاس لحنانه الأبوي... وحزنها ودموعها فيض من دموعه على العالم الذي أضاَع حبّ الآب وحضنها الدافئ هو الطريق للرجوع اليه...
في 27 ت2 1830،خلال فترة التأمّل في الكنيسة رأت القديسة كاترين العذراءللمرّة الثانية. إنها تروي الحدّث: "رأيت العذراء القديسة، واقفة، لباسها أبيض بطول متوسط ووجهها رائع ويستحيل عليّ وصف جمالها...
كانت العذراء تحمل بين يديها كرة ذهبية يعلوها صليب صغير... كانت تحملهابراحة وعيناها نحو السماء ... إنّها تقدّمها لله... ثم سمعت : "هذه الكرة تمثِّل العالم بأسره... وتمثِّل كل إنسان بمفرده". فجأة، امتلأت أصابع العذراء التي تحمل الكرة بالخواتم المرصّعة بالحجارة الكريمة. كانت الحجارة تتلألأ. أشعتها برّاقة ساحرة.
في ذلك الوقت عينه، كان صوت يقول لي: هذه الأشعة ترمز الى النِعم التي تنالهاالعذراء للذين يطلبونها منها. أخيراً رأيت بعض الحجارة الكريمة بدون أشعة.كانت رمزاً للنعم التي ينسى أن يطلبها الناس".
ثم تكوّن إطار ذهبي بشكل أيقونة بيضاوية كتب عليه بأحرف ذهبية: "يا مريم التي كُوِّنت بلا خطيئة، صلي لأجلنا نحن الملتجئين إليكِ ".
ثم استدار المشهد على ذاته ورأيت الوجه الآخر للأيقونة واستطعت أن أميّز فيه حرف M يعلوها صليب.
بعد الظهور بسنتين طُبعَت الأيقونة بأمر من رئيس أساقفة باريس. ومن ذلك الحين والأيقونة تنتشر بشكل هائل في كل أنحاء العالم، بينما بحر النِعَم والآيات والشفاءات والحماية وخاصة التوبة واهتداءات لا ينقطع ولا يتوقف.مما أدّى إلى أن لقّبها الشعب "بالأيقونة العجائبية".
ففي 15 ك2 1842 شاءت الصدفة أن يلتقي في إحدى شوارع روما التاجر العبراني الكبير والملحد الشرس المعادي للإكليروس "ألفونس راتيسبون"، بصديق أخيه "تيودور دي بوسّيار" وكان كاثوليكياً ملتزماً.
فكان سلامٌ فموعدٌ فلقاءٌ في اليوم التالي. في هذا اللقاء دار نقاش حاد بين الصديقين حول موضوع الإيمان. فما كان من تيودور إلاّ أن طلب من صديقه بإلحاح أن يلبس الأيقونة العجائبية إرضاءً له فقط حتى ولو لم يكن يؤمن "بهكذا خرافات".
في اليوم 20 من الشهر عينه التقى الصديقان في نزهة في شوارع روما. فما إن وصلوا إلى أمام كنيسة القديس اندراوس حتى استأذن تيودور صديقه لوقت قصير.
وبينما كان ينتظر صديقه دخل ألفونس إلى الكنيسة بداعي الفضول. وفجأة ... تحضر العذراء... كما هي على الأيقونة العجائبية...
ولماعاد تيوديور وجد صديقه الملحد جاثياً على ركبتيه أمام المذبح. فسأله عمّاحصل فأجابه: " مريم العذراء، لقد رأيتها ! .. لم تقُل لي شيئاً ولكني فهمت كل شيء.
تقبّل ألفونس سرّ العماد في 31 من الشهر نفسه وبعد خمسة أشهر دخل الرهبنةاليسوعية واضعاً نفسه في خدمة البشارة وعاملا من أجل الحوار المسيحي العبراني.
(نحن أيضاً، إننا بحاجة إلى معونة أمنا السماوية لكي نتوب نحن المسيحيين الفاترين. ليست الأيقونة شعوذة بل وسيلة للعودة الى الرب. كما تقول كاترين:"مَن يلبس الأيقونة يسلّم ذاته للعذراء". فلننشرها اذاً من حولنا كعلامة تكريس ذواتنا في خدمة البشارة).
العذراء ترفع العالم وكلّ فرد مِنّا الى ابنها. يداها المملوءتان
نِعَماً تكشف لنا أنّ محبة الله وحنانه وعطفه علينا هي غزيرة على قدر غزارةهذه الأنوار. مريم تفيض علينا بالنعمة التي امتلأت بها منذ تكوينها. هي تقول لي: الله أبوك! الله لا يخيف! ليس قاضياً ظالماً! أليس هو الذي يشرق
شمسه على الأبرار والأشرار. الله ليس بعيداً عنكَ! هو لا يحتاج الى مَن يحنّن قلبه عليك بل ينتظرك لتعود اليه بالتوبة ويهيّء لك خاتم الأبناء.مريم، كالأمّ الحنونة، تدلّني إلى الآب وكالتلميذة الأمينة تدفعني لألتقي به شخصياً.
الشعاعات المطفأة أي "النِعَم التي لا يطلبها أحد" هي رمز لكلّ مرّة أقرّر فيها أن أترك الله وأن أعيش حياتي وأن أحلّ مشاكلي بدونه.
وهنا أكون أنا مَن وضع حياته خارج الخلاص ومشى خارج النور. إنّ حب الله لا يتخلّى عني حتى لو تخلّيتُ عنه، فالشعاعات المطفأة تصبح نوراً مع مشاركتي، تماماً كما
أنّ مشروع الخلاص لم يكن قد تمّ لولا طاعة مريم. مريم تعلمني أن أسمع كلام الله وافتح له حياتي (أنا أمة الرب...) لأكون مثلها الأرض الطيّبة التي تزُرع فيها الكلمة فتزهر قيامةً. وهذا يرمز اليه حرف M الذي يحمل الصليب.
إنّ إنسان اليوم يبحث عن السعادة ويعتقد إنّه سيجدها في التقدم وفي التكنولوجيا والطبّ، في جمع المال والغنى وهكذا أضاع الطريق. الخطيئة وقلّة المحبّة هما سبب ألم الإنسان الحقيقي. فكلّما تقدّس وصار "كاملاٍ بلا عيب
ولا دنس في المحبة" (كما يقول مار بولس) كلّما اقترب من تحقيق المشروع لوجوده في الكون وكلّما كان سعيداً.
الطهارة بلا دنس التي تكوّنت فيها العذراء والتي حافظت عليها حتى موتها المقدّس هي الأمل لنا جميعا، نحن الخطأة، بأنّنا قادرون بمشوار توبتنا، برفقة مريم، أن نصل يوماً إلى هذا النقاء، قادرون أن نصل الى ساعة موتنا بدون خطيئة لا عيب فينا كاملين في المحبة... لأن خلاصنا بيسوع أكيد وحقيقي وقادر على تقديسنا شرط أن نقبله.
فيا مريم البريئة من الخطيئة الأصلية صلّي لأجلنا نحن الملتجئين إليك.صلّي لأجلنا حتى لا تغشّنا وعود العالم الكاذبة. صلّي لأجلنا حتى لا نلجأ في مشاكلنا وضعفنا إلى ينابيع الحل المزيّفة. صلّي لأجلنا حتى لا نبحث في
آلامنا وأمراضنا وموت جسدنا إلاّ عن الحياة الحقيقية عند يسوع، أي المحبة كما هو أحبّنا، لأنّ هذه المحبّة هي الحياة الحقيقيّة الأقوى من الموت.
فكما اشتعل قلبُكِ يا مريم بحبّ الله والبشر، من خلال اتحاده بقلب يسوع، فشاركتِه آلام الخلاص والقيامة، هكذا لا تتخلّي عنّا إلى أن نشتعل نحن أيضاً بحبّه من كلّ قلبنا وكل عقلنا وكل قوتنا وبحبّ اخوتنا كنفسنا، فننشرحولنا لغة المحبّة والغفران والخدمة طاعة للذي أرسلنا في الأرض كلها لنعلن
البشارة لكلّ إنسان، وهذا رمز النجوم.
إنَّ كاترين هي قديسة الصمت. أمضت باقي حياتها بخدمة الفقراء والمرضى والعجزة.
رغم انتشار الأيقونة والعجائب الكثيرة التي حصلت بواسطتها بقيت مخفيّة كاتمة السرّ فلم يستطع أحد أن يعرف مَن هي هذه الراهبة المحظوظة التي رأت العذراء، لأنها عرفت أنّ السعادة الحقيقية تكمن في الحبّ وليس في الشهرة.
لقاؤها بالعذراء كان بداية مشوار فتقدّست بحبّ المسيح وخدمته في الفقراء وليس لأنها رأت العذراء.
تعلمنا كاترين أن لا نبحث عن الشهرة والغنى ولا عن
العجائب في هروب من صليبنا
بل أن نبحث عن الحب الحقيقي في الإتحاد بالمسيح
لأنّه هو الكنـز الدفين الذي يستحق أن نبيع كلّ ما لنا لنشتريه.
إحمل الأيقونة كعلامة ايمان، وانشرها من حولِكَ، متخذاً من العذراء أمّاً لك jأخذها الى بيتكَ وتقرّرُ معها السير في مشوار الإيمان نحو الإتحاد بالمسيح خلاصنا الوحيد.
منذ العام 1813، وفندقُ دي شاتيون هو الديرالأمّ لجمعيّةِ راهباتِ المحبّة، راهباتِ القدّيس منصور. فقد شَيَّدتِ الراهباتُ كنيسةً مُكَرَّسَةً لقلبِ يسوع الأقدس. وفي الواقع، فإنّ ختم الجمعيّةِ يُمثّلُ يسوعَ المسيح على الصليب معَ القلبِ الأقدسِ الذي يَشعُّ محبّةً، للدلالةِ على أنَّ للراهباتِ رسالةً هي المحبّة
في العام 1830، فورَ انضمامِ كاترين لابوريه إلى الجمعيّة، كانت لها نعمةُ الالتقاءِ بالقدّيس منصور دي بول . وطوالَ فترةِ التنشئة تَراءى لها المسيحُ الحاضرُ في القربانِ المقدَّس، ولكنْ من دونِ أيَّةِ رسالة. وفي وقتٍ لاحق، في 18 تموز، و27 تشرين الثاني، وفي شهرِ كانون الأوّل 1830 التقتِ السيّدةَ العذراء، وأعطتها مريمُ العذراءُ نموذجَ الأيقونةِ العجائبيّة. ومنذُ ذلك اليومِ يَتوافَدُ ملايينُ الحُجّاج من جميعِ أنحاءِ العالَمِ للصَّلاةِ في الكنيسة
بُنيتِ الكنيسةُ في العام 1815، وكُرِّسَت لقلب يسوع الأَقدَس. وقد طُبِعَت بأحداثٍ استثنائيَّة في العام 1830 نتيجةً لظهوراتِ السيّدةِ العذراءِ للراهبةِ كاترين لابُورِيه
الظُّهورات
لقد نزلتِ السماءُ إلى الأرض … فمن تمّوز إلى كانون الأوّل من سنة 1830، تلقّتِ الأختُ كاترين، الراهبةُ المبتدئةُ في ديرِ راهباتِ المحبّة، حُظْوَةً كُبرى لدى مريم العذراء إذ تراءت لها ثلاثَ مرّات
في الأشهر التي سَبقت، حَظِيَت كاترين بظُهوراتٍ أُخرى؛ إذ أَظهرَ لها منصور دي بول قلبَه. فأثناءَ الصلاةِ في الكنيسة، رأت كاترين، على مدى ثلاثةِ أيّامٍ مُتَتالية، قلبَ القدّيس منصور في ثلاثةِ ألوانٍ مُختلِفة. تراءى لها أولاً بِاللونِ الأبيضِ لونِ السلام، ثمَّ الأحمرِ لونِ النار، ثمَّ الأسودِ علامة المصائبِ التي ستَحلُّ على فرنسا وباريس على وجهِ الخُصوص
بعد فترةٍ وَجيزة، رأت كاترين المسيحَ حاضراً في القربان المقدّس، من خلال القربانة
» رأيتُ ربَّنا في القربان المقدَّس طوالَ زمن التنشئة كلّها، باستثناءِ المرّاتِ التي كنت أَشكُّ فيها »
وفي 6 حزيران 1830، عيدِ الثالوثِ الأقدس، تراءى لها المسيحُ بشكلِ ملكٍ مصلوب، مجُرِّداً من حُلِيِّه
ت 18 تموز 1830، عَشيَّةَ عيد القديس منصور الذي تُحبُّه كثيراً، التجأت كاثرين إلى ذاك الذي رأت قلبَه يَفيضُ حُبّاً لكي تَتحقّقَ رغبتُها الشديدة في رؤيةِ السيّدةِ العذراء. عندَ الساعة 11:30 مساءً، سمعَت مَن يُناديها باسمها
طفلٌ غريب، بالقرب من سريرها يدعوها للنهوض قائلاً: « إنّ السيّدةَ العذراء في انتظارك »ك
ارتدت كاترين ثيابَها وتبعَتِ الطفلَ الذي كان ينشر أشعَّةً تُضيءُ المكانَ حَيثُما تَوَجَّه
لدى وُصولِها إلى الكنيسة، تَوقّفت كاترين بالقرب من الكرسيِّ الذي يجلسُ عليه الكاهنُ قرب المذبح تحتَ صورة القدّيسة حنة (مَوقِع تمثال القدّيس يوسف حاليّاً). وإذا بها تسمعُ صوتاً « أَشبَهَ بِحَفِيفِ رداء من حرير فيقولُ لها دليلُها الصغير
« ها هي العذراء القديسة »
تردّدت في التصديق اوّل الامر. لكن الطفل كرّر بصوت أقوى
« ها هِيَ السيّدةُ العذراء القدّيسة »
فارتمت كاترين عندَ أقدامِ السيّدةِ العذراء الجالسةِ على كرسيٍّ، ووضعت يدَيها على ركبتَي والدةِ الإله
هناك قضَيتُ أجملَ وأعذبَ وقتٍ في حياتي كلِّها. وسيكونُ من المستحيل بالنسبة لي أن أُعبّرَ عمّا كنتُ أشعرُ به. لقد قالت لي السيّدةُ العذراء كيف يجبُ عليّ التصرّفُ معَ مُرشدي الروحيّ وأشياءَ أخرى كثيرة
أشارتِ السيّدةُ بيدها إلى المذبح حيثُ بيتُ القربان وقالت
« تعالي إلى أقدامِ هذا المذبح. هنا ستفيض النِّعَمُ على جميع الذين يطلبونَها بثقةٍ وحرارة »
تلقّت كاترين الإعلانَ عن رسالةٍ صعبة وطلبِ تأسيسِ جمعيّةِ الشبيبةِ المريميّة. هذه الطلبُ الأخيرُ سيحقّقُه الأب أَلَدال في 2 شباط 1840
في 27 تشرين الثاني 1830، ظهرتِ السيّدةُ العذراء من جديد لكاترين في الكنيسة. هذه المرّة عند الخامسة والنصف مساءً، خلالَ فترة التأمّل للمبتدئات، تحت صورة القدّيس يوسف (المَوقع الحاليّ لعذراء الكُرة الأرضيّة). رأت كاترين مشهدين حيَّين متداخلَين، ظهرت فيهما مريمُ العذراء واقفةً على نصف الكرة الأرضيّة، وقدماها تسحقان الحيّة
في المشهد الأوّل، العذراءُ تحمل في يديها كُرةً ذهبيّةً صغيرة يعلوها صليب، رافعةً إيّاها نحو السماء. فسمعت كاترين صوتاً يقول
« هذه الكرةُ تمثّلُ العالمَ بأسره، وفرنسا وكلَّ إنسانٍ بمفرده «
وفي المشهدِ الثاني، تَظهرُ يدا العذراء منبسطتَين وفي أصابعها خواتمُ من الحجارةِ الكريمة، وتنبعِثُ من يديها أشعّةٌ ضياؤُها أخّاذ. سمعت كاترين في الوقت عينِه صوتاً يقول
« هذه الأشعّةُ ترمزُ إلى النِّعَمِ التي أُسبغُها على الأشخاص الذين يطلبونها منّي »
ثم تَشكَّلَ رسمٌ بيضاويٌّ حولَ الظهور، وشاهدت كاترين كتابةً في شكل نصف دائرة بحروف من ذهب
« يا مريمُ البريئةُ من الخطيئة الأصليّة صلّي لأجلنا نحن الملتجئينَ إليك »
ثم سمعت صوتاً يقول
« إطبَعي أيقونةً على هذا الشكل. وكلُّ مَن يحملُها بثقةٍ ينالُ نِعَماً غزيرة «
Mثمّ استدارتِ الصورةُ؛ فرأت كاترين الجانبَ الآخَر للأيقونة: في الأعلى حرف
وفوقَه صليب، وفي الأسفل قلبان الأوّلُ مُحاطٌ بإكليلٍ من شوك، والثاني مطعونٌ بسيف
في كانون الاول 1830 أثناء التأمّل، سمعت كاترين حفيفاً مرّةً أُخرى، هذه المرّة وراء المذبح. وتظهر الصورة عينها للأيقونة بالقرب من بيت القربان، قليلاً إلى الوراء
« هذه الأشّعة هي رمز النعم التي تُسبِغُها مريم العذراء على الأشخاص الذين يطلبونها … ولن تريني بعد الآن »
إنّها نهاية الظهورات. وقد أبلغت كاترين مرشدها، الأب أَلَدال بطلبات السيّدة العذراء. فاستقبلها بطريقة سيّئة جدّاً، ومنعها عن التفكير في الأمر. فكانت الصدمة صعبة جدّاً
في 30 كانون الثاني 1831، انتهت سنة الابتداء؛ ولبست كاترين ثوب الرهبنة. وفي اليوم التالي ذهبت إلى مأوى إنين الذي أسّسته عائلة أورليان ، شرق باريس، في أحد أحياء البؤس 12 شارع رويّي حيث ستخدم العجزة والفقراء مدّة 46 عاماً متخفّيَّةً
في هذه الكنيسةِ التي اختارَها الله، جاءت مريمُ العذراء بنفسُها لتكشف شخصيّاً عن هويّتها من خلالِ شيءٍ محسوسٍ صغير، أيقونة للجميع من دون تمييز
هويّة مريم كانت موضِعَ جدلٍ بين اللاهوتيّين منذُ الأزمنةِ الأُولى للكنيسة. ففي سنة 431 أَعلنَ مَجمعُ أفسس العقيدةَ المريميّةَ الأولى: مريم هي أمُّ الله. ومنذ عام 1830، كان الابتهال
« يا مريم التي حُبلَ بها بلا دَنسٍ صَلّي لأجلنا نحن الملتجئين إليك »
هذا الابتهال الذي تصَعَّده إلى السماء آلافُ قلوبِ المسيحيّين، متكرّراً آلافَ المرّات في العالم كلِّه، بطلب من والدة الله، سيفعلُ فِعلَه
في 8 كانون الأوّل 1854 أعلن البابا بِيّوس التاسع عقيدةَ الحبل بلا دنس انطلاقاً من النعمة الخاصّة التي كانت قد مُنحت لها بموت ابنها، مريم هي بريئةٌ من الخطيئة منذ الحبل بها
بعد أربع سنوات، في عام 1858، ستؤكِّدُ ظهوراتُ لورد لبرناديت سوبيرو هذه الخاصّةَ التي تميّزت بها والدةُ الإله. بقلبها الطاهر، مريم هي الأولى التي افتداها يسوع المسيح. إنها النُّورُلأرضنا. ونحن جميعاً مُعَدّونَ مثلَها للسعادةِ الأبديّة
بعد بضعة أشهرٍ من الظهورات، تمَّ تعيينُ الأخت كاترين في مأوى إنين (باريس 12) للعناية بالمُسنّين؛ فانكبّت على العمل. لكنّ الصوتَ الداخليَّ كان يناديها يإلحاح: يجبُ طبعُ الأيقونة. ففاتحت مُجدَّداً مرشدَها الأب أَلَدِيل بالأمر
في شباط 1832 تَفَشّى في باريس وباءُ الكوليرا الرَّهيب الذي أودى بحياة أكثر من عشرينَ ألفَ شخص! في حزيران، بدأت راهباتُ المحبّة بتوزيع ألفي أيقونة هي الأيقوناتُ الأولى التي طُبعت بناءً على طلبِ الأب ألديل . فتزايدت حالاتُ الشفاء، وكذلك حالاتُ الوقاية والاهتداءات. كان ذلك حدثاً مزلزلاً. فأطلق أهلُ باريس على الأيقونة لقب العجائبيّة
في خريف 1834 كان هناك أكثر من 500000 أيقونة. وفي العام 1835 تخطّى عدُدها المليون في جميع أنحاء العالم. وفي العام 1839 وُزِّع منها أكثرُ من عشرة ملايين نسخة. وعند وفاة الأخت كاترين، في عام 1876، بلغ عدُدها أكثرَ من مليار أيقونة
إنّ الكلماتِ والرسومَ المحفورةَ على وجه الأيقونة تُعبّرُعن رسالةٍ ذات أبعادٍ ثلاثةٍ مترابطة
« يا مريمُ البريئةُ من الخطيئة الأصليّة، صلّي لأجلنا نحن الملتجئين إليك »
إنّ هويّةَ مريم قد كُشِفَت لنا هنا بشكلٍ واضح: مريمُ العذراء هي بريئةٌ من دنس الخطيئة منذ لحظةِ الحبل بها. من هذه الميزةِ المُعطاة لها عَبْرَ استحقاقاتِ آلام ابنِها يسوع المسيح، تنبعُ قُدرتُها المُطلَقَةُ على التشفُّع بأولئك الذين يُصلّونَ لها. لذا، فإنّ العذراءَ تدعو جميعَ الناس للالتجاء إليها كلّما واجهتهم الصعوباتُ في حياتهم
قدماها اللتان تضعهما على نصف الكرة، تسحقُ بهما رأسَ الأفعى
نصفُ الكرة هو نصفُ الكرة الأرضيّة ويعني العالم. والأفعى عند اليهود والمسيحيّين، تُجسّدُ الشيطان وقوى الشرّ
العذراءُ مريم هي نفسُها ملتزمةٌ بالحرب الروحيّة، الحربِ ضدَّ الشرّ حيث عالمُنا هو ساحةُ المعركة. إنّها تدعونا للدخول نحن أيضاً إلى مَنطِق الله المختلفِ عن منطقِ العالم. هذه هي نعمةُ التوبة الحقيقيّة التي على المسيحيّ أن يطلبَها من مريم لنقلِها إلى العالم
يداها منبسطتان وأصابعُها مزيّنةٌ بخواتمَ مرصّعةٍ بالأحجار الكريمة ومنها تنبعثُ أشعّةٌ تتسقاطُ على الكُرةِ الأرضيّة وتتعاظمُ عند الأسفل
إنَّ تألُّقَ هذه الأشعة، كما الجمالُ وضوءُ الظهور الذي وصفته كاترين، يدعو ويبرّرُ ويغذّي ثقتنا بإخلاص مريم (الخواتم) تجاهَ خالقها وتجاهَ أبنائها وبفعاليّةِ تَدَخُّلِها (أشعّةُ النِّعَمِ الموزّعة على الأرض) وفي النصر النهائيّ (النُّور) لأنّها هي نفسُها التلميذةُ الأُولى، وأوّلُ المخَلَّصين
يَحملُ الوجهُ الآخرُ للأيقونة الحرفَ الأوّلَ من اسمِ العذراء ورسوماً تُدخلُنا في سرِّ مريم
يعلوه صليب « M« الحرف
الحرفُ الأوّل من اسم مريم، وصليبُ المسيح. العلامتان المترابطتان تُظهران العلاقةَ التي لا تَنفَصِمُ بين المسيح وأمّه الكلّيّةِ القداسة. مريم هي شريكةٌ في رسالةِ خلاصِ البشريّة من خلال ابنها يسوع وتُشاركُ من خلال حنانها بفعلِ تضحيةِ المسيح الخلاصيّة
في أسفل الأيقونة قلبان، الأوّلُ مكلّلٌ بالشوك، والآخر مَطعونٌ بالسيف
القلبُ المكلّلُ بالشَّوك هو قلبُ يسوع، ويُذكِّرُ بالمرحلةِ القاسيةِ من آلام المسيح التي تَرويها الأناجيل، المرحلةِ التي سبقت صَلبَه وموتَه. إنّه يرمزُ إلى آلامه حبّاً بالبش
القلبُ المطعونُ بالسيف هو قلبُ مريم أمِّه، يُذكّرُ بنبوءةِ سمعان الشيخ التي ترويها الأناجيل يوم تَقدمة مريم ويوسف ليسوعَ إلى الهيكل في أورشليم، ويرمزُ إلى حبّ المسيح الساكنِ في مريم وحبِّه لنا. من أجل خلاصِنا، قبلت مريم التضحيةَ بابنها
إنّ تقاربَ القلبين يدلُّ على أنّ حياةَ مريم هي حياةٌ حميمةٌ مع يسوع
إثنتا عَشْرةَ نجمةً محفورة على إطار الأيقونة
إنّها مُطابقةٌ لعدد الرُّسلِ الاثني عشرَ الممثّلِين للكنيسة. وأَنْ تكونَ من الكنيسة يعني أن تُحبَّ المسيح وتُشاركَ في آلامه من أجل خلاصِ العالم. وكلُّ مَعمَّدٍ مدعوٌّ إلى المشاركة في رسالة المسيح الخلاصيّةِ باتّحاد قلبه بقلبَي يسوع ومريم
الأيقونةُ هي نداءٌ موجَّهٌ إلى ضميرِ كلِّ واحدٍ منّا لكي يختارَ كما المسيح ومريم طريقَ المحبّةِ حتّى البَذلِ الكُلّيِّ للذات