من كتاب "خلاصة تاريخ الكنيسة الكلدانية" للمطران (البطريرك) لويس ساكو
1-التسمية
إن الوثائق التي في حوزتنا غير وافيّة، وجاءت بمستويات متنوعة. تحدّث الناس عن الكنيسة النسطورية وربطوها خطأً بمجمع أفسس وبإدانة نسطور في عام 431، إلا أن التسمية التاريخية لمسيحيي بلاد ما بين النهرين كانت دومًا " كنيسة المشرق: - The Church of the East " . تعود جذورُ الكنيسة الكلدانية إلى كنيسة المشرق، التي ازدهرت وراءَ أسوار الإمبراطورية الرومانيةoutside the Roman Empire ، والتي سُميّت أيضًا بكنيسة السريان المشارقة سورييا مدنحيا نسبةً إلى بقعة انتشارها شرقيّ نهر الفرات، وكنيسة فارس نسبةً إلى بلاد الفرس. هذه التسميات ضاربةٌ في عمق تاريخ بلاد الرافدين "Beth-Nahrain" وحضارتِها. أما التسميات الحالية: الكنيسة الكلدانية أو الأشورية كتسميات كنسيَّة والتي لها خصوصيتها وأسبابها، هي متأخرة نسبيًا، بالرغم من أنها ترجع إلى حضارات وشعوب موغِلة في القِدم. واللغة "السريانية" كانت لغة التجارة والثقافة في بلدان طريق الحرير، ولا يَزال يتكلم بلهجتها العامّية معظمُ مسيحييّ العراق وجنوب تركيا من كلدان وأشوريين وسريان وفي إيران وبلاد المهجر.
لقد استُخدمت العبارة: "الكنيسة الكلدانية"، رسميًا للدلالة على مجموعة من أبناء كنيسة المشرق الذين انتموا إلى الكنيسة الكاثوليكية أولاً في قبرص عام 1340، في زمن البابا مبارك الثاني عشر، لكّن هذا الاتحاد لم يدم. ثم في عام 1445 إثر مجمع فلورنسا، في زمن البابا اوجين الرابع. هؤلاء المشارقة القبارصة كانوا من بقايا الأسرى الذين ساقهم ملوك الروم وأسكنوهم في جزيرة قبرص، ومعظمُهم كان من منطقة أرزون. ثانيًا في القرن الثامن عشر، عندما أقام البطريرك الكاثوليكي كرسيَّه في دياربكر (أمد – تركيا)، استعمل التسمية هذه إلى جانب تسمية "الكنيسة الكاثوليكية". وسَرَت تسميّة "الكنيسة الكلدانية" رويدًا رويدًا، وتغلّبت على التسميّات الأخرى، وخصوصًا عندما اتحد الكرسيّان الكاثوليكيّان: ديار بكر والموصل في شخص يوحنا هرمز عام 1828. من المؤكد أن هناك أختام بعض البطاركة "النساطرة" وشواهد قبورهم تحمل التسمية الكلدانية. واليوم قد استقرت هذه التسمية رسمياً للجانب الكاثوليكي من أبناء كنيسة المشرق.
2- حقبة التأسيس والانتشار حتى مجيء الإسلام
إن المصادر عن نشأة كنيسة المشرق قليلة. من المرجّح أن المسيحية ترّكزت أولاً في الرها (أورفا الحاليّة في تركيا)، ومنها امتدت الى المدن المحيطة بنصيبين والى مناطق ما بين النهرين. وقد تكون دخلت عن طرق أخرى، مثل تدمر– حضر، أو من الجنوب عبر الخليج، وذلك منذ نهاية القرن الأول ومطلع القرن الثاني.
من المؤكد تاريخيًا أن أبجر الثامن (176-213) كان مسيحيًا.
وجد المبشرون الأوائل مناخًا مُعَدّاً لغوياًّ ودينيّاً، بين الجاليّات اليهوديّة المتواجدة في سهل نينوى وأربيل وبابل من الأسباط الذين سباهم ملوك الاشوريين: تغلث فلاسر وشلمناصر ثم نبوخذ نصر الملك البابلي، واستوطنوا هناك، ولم يعودوا الى فلسطين مع عزرا عام520 ق.ب. كما انتشرت في أوساط آرامية وفارسية. وبحسب التقليد المتواتر ونصوصِ الآباء والليترجيا أن الرسول توما هو أول من حمل البشارة المسيحيّة إلى هذه الأرض وهو في ويحتل مكانة هامة في الكنيسة المشرق الكلدانية والآشورية وكنيسة مالابار في جنوب الهند. هذه الكنائس تعد مار توما رسولها وأول من بشرها بانجيل يسوع وهو في طريقه الى الهند. وبحسب التقليد المتوارث ان توما هو من أرسل اداي أحد الاثنين والسبعين تلميذا الى الرها لشفاء ملكها ابجر وهو من نقل الى الرهاويين الانجيل. ومنذئذ سميت الرّها بالمدينة المباركةBlessed Edessa . وبعدما بشر في بلاد ما بين النهرين خصوصا في الجنوب، ذهب الى الهند عن طريق البحر. وهناك بشر العديد من الهنود في منطقة كرالا. وبحسب التقليد استشهد في مدينة ميلابور بقرب من مدراس نحو سنة 72. والملاباريون الى يومنا هذا يدعون بمسيحيي مار توما.
وبحسب التقليد ايضا ان تاجرا من بين النهرين في القرن الثالث نقل رفاته الى الرها. ولمار افرام (القرن الرابع) عدة مداريش يمتدح فيها توما الرسول.
يذكر ذلك اوريجانس (185-253) كما ينقله اوسابيوس القيصريHE XIII,5,32)). ثم تبعه أداي وماري (أما اجاي وأحاي فلا ذكر لهما في نصوص الآباء والليترجيا، ورد ذكرهما في مصادر متأخرة، ككتاب المجدل). ويُعدّ ماري المؤسس الرسمي لكرسي كنيسة المشرق في ساليق وقطيسفون، وباني الكنيسة الأم في "كوخي" في منطقة "بوعيثا" القريبة من الدورة ببغداد.
فريق آخر من المسيحيين أسهم في التبشير، هم المهاجرون من فلسطين، على إثر ثورة اليهود الاولى ضد الرومان وخراب المدينة على يد القائد الروماني طيطس عام 70 ميلادي، وحرق الهيكل تمامًا، وثورتهم الثانية بقيادة بركوكبا عام 132-135 في حكم ادريانُس. ونجد ثلاثة من رؤساء هذه الكنيسة، ينتسبون إلى عائلة يسوع "يوسف النجار". ونستدل أنهم كانوا من فريق المحافظين، على خطّ "يعقوب" رئيس كنيسة القدس، والذي كان من أقرباء يسوع، وهم: ابريس، عبراني من اهل يوسف خطيب السيدة، ابراهيم، قرابة يعقوب المسمى أخو الرب، يعقوب، من ال يوسف خطيب مريم، وان أحادابوي رسم في كنيسة القيامة (المجدل ص 2-6). واصلت هذه الكنيسة علاقتها مع أورشليم إلى القرن الخامس.
تأثير اورشليم على مسيحي المشرق واضح من خلال عدة مؤشرات: الريازة الكنسية، الليترجيا، البركات اليهودية في قداس اداي وماري، تطوافات وطلبات، صلاة ختام الشهر، إقامة عيد لمارت شموني واولادها الذين استشهدوا في القرن الثاني قبل الميلاد.
كما ان الأسرى الرومان، الذين كانت الجيوش الفارسية تقودهم أثناء غزواتهم، وتسكنهم في مدن فارسية، وخصوصًا أسري أنطاكية وقيليقية ومدن أخرى، نشّطوا انتشار المسيحية. نذكر على سبيل المثال حملات شابور الأول (240-272). ففي حملته عام 256 أتى بفريق من الأسرى الى بين النهرين من أنطاكية ومعهم الأسقف ديمتريانس وأسكنهم في جنديشابور.
وخلال حكم شابور الثاني المعروف بذي الأكتاف (309-379)، كانت المسيحية المشرقية مستوطنة في مدن رئيسية عديدة، وكان لها نظام أسقفي واضح. اننا نجد بعض نصوص أدبية ومواقع أثرية تؤكد ذلك (مثلاً بينات أفراهاط الحكيم (+346). ان قيام شابور الثاني، بحملات متشددة ضد المسيحيين، ليس كما يُظَنُ عمومًا بسبب مرسوم ميلانو (سنة 311) الذي أصدره قسطنطين، بل لعدّه المسيحيين مُوالين للمدن المتاخمة للحدود، التي كان معظم سكانها يدين بالمسيحية، ولعدم فهم عقائد المسيحيين وطقوسهم وسلوكهم: الصلاة في الليل باشتراك الجنسين، ورفضهم الإنخراط في الجيش وتقديم السجود للملك والأمراء، وعدم حضور الألعاب العامة والاشتغال في مهن معيّنة كالصياغة والنحت. ودام الاضطهاد أربعين عامًا. وعندما تولّى يزدجرد الأول (399-422) الحكم، خفّ التوتّر قليلاً بين الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية، واستؤنف تبادل البعثات الدبلوماسية. وترأس العديد من هذه البعثات رجال دين رفيعو المستوى لإخلاصهم للوطن ولمعرفتهم اللغات ولقلة التكاليف. وقد ترأس ماروثا أسقف مدينة ميافرقين الحدودية، بعثتين عام 399 وعام 408 واستمرّت إلى 410. تعرّف خلالها على وضع المسيحيين. ومارس نفوذًا شديدًا على يزدجرد، حتى نال منه منحهم حرية ممارسة شعائرهم الدينية علنًا، وفرصة تنظيم مراكزهم وشؤونهم الخاصة، أسوة بالآخرين. ولإعطاء دفعة قوية لكنيسة المشرق، قام بإعداد مجمع شامل يضّم أساقفة هذه الكنيسة، عقد عام 410، تحت رئاسة اسحق الجاثليق، وعرف باسمه، ويعد الأول من نوعه. حضر هذا المجمع أربعون أسقفا، فضلاً عن ماروثا الذي أشرف عليه. وأتخذ الآباء قرارات حاسمة تخّص العقيدة والادارة والطقوس. ومن جملة ما تبنوا، نذكر: قانون إيمان نيقية، وأُحاديّة الرئاسة في شخص كبير أساقفة المدائن، وتراتبية الأبرشيات.
وقد اعتمدت المجامع اللاحقة قرارات هذا المجمع المؤسس. وفي مجمعَي عام 422 و424 تّم التشديد من جديد على أحادية الرئاسة الكنسية، وتبنى الأخير، المعروف بمجمع داديشوع، لقب الجاثليق – البطريرك لكرسي ساليق وقطيسفون، التي عرفت فيما بعد بالمدائن. جاء في القرار 61: " إن الجاثليق داديشوع الذي يقوم على رأس كنيسة الله. في بلاد المشرق هو بمثابة بطرس، القائم على رأس الرسل". وفي مجمع آقاق عام 486 برز استقلالها العقائدي. بهذه المجامع الثلاثة أظهرت كنيسة المشرق نفسها منظمَّة إدارياً وذاتيًا، إلا أنها لبثت كنيسـة "خارج الأسوار"، أي خارج الإمبراطوريــة الرومانيــة، وعمومًا معزولة بسبب ظروفها الجغرافية والسياسية، ولم تتمكن من الإشتراك في المجامع المسكونية المنعقدة داخل الإمبراطورية.
ان ما يقال عن تدخّل ألآباء الغربيين (كنيسة انطاكيا) في شؤون كنيسة المشرق الإدارية، يفتقر إلى دليل علمي. وما رسالة "الآباء الغربيين" المزعومة إلى المشارقة إلا ما جلبه ماروثا معه من قوانين، كانت قد اعتمدتها كنائس الإمبراطورية الرومانية.
لكن التأثير "الغربي" في كنيسة المشرق حصل في مجال الفكر اللاهوتي، وخصوصًا بما يتعلق بالسيد المسيحChristology. هذا التأثير تّم بواسطة ما تُرجم من كتب آباء مدرسة أنطاكيا العظام: ثيودورس أسقف مصيصة وديودورس أسقف قورش. فتبّنت كنيسة المشرق الكريستولوجيا الأنطاكية ذات الإتجاه اللاهوتي التصاعدي: من الإنسان إلى الله على عكس الاتجاه الاسكندري التنازلي من الإله إلى الإنسان. هذا اللاهوت الذي رفضه مجمع أفسس عام 431، وتبنّاه رسمياً مجمعا بيث لافاط (484) وساليق-قطيسفون(486).
وأول مرة ظهر إسم نسطوريوس كان في عام 612 في مناظرة بين فريقين لاهوتيين: المشرقي والسرياني الأرثوذكسي، أمام الشاه كسرى الثاني. في الواقع، قلّما نجد تأثيرا لتعليم نسطوريوس في كنيسة المشرق، إنما التأثير الأقوى والمباشر هو لثيودورس أسقف مصيصة الذي عدّته" المعلِّم الأعظم".
إن كنيسة المشرق، بالرغم من كل الصعوبات، عدّت نفسها، على طول الخطّ، جزءًا من الكنيسة الجامعة، لكن ظروفَها لم تسمح بإقامة علاقات مع الكنيسة الغربية، فعاشت في عزلة تاريخية وجغرافية أكثر منها عقائدية.
في القرن الخامس، عرفت كنيسة المشرق إنتشاراً واسعًا، في مناطق بين النهرين وبلاد فارس والقبائل التركية في آسيا، وخصوصًا في زمن الجاثليق آبا الأول (540-552)، الذي زار الاسكندرية والقسطنطينية وأنطاكيا، وقام بإصلاحات كبيرة: ليترجّية وتنظيميّة لحياة الاكليروس. كما ازدهرت المسيحية في بلدان الخليج وقد أعطت بيث قطرايي، التي كانت تشمل أكثر من إمارة قطر الحالية، لاهوتيين بارزين، نذكر منهم: إبراهيم القطري وداديشوع وأيوب وإبراهيم برليفي واسحق أسقف نينوى.
أما القرن السادس، فقد شاهد حالة إصلاح ونهضة بفضل انتعاش الحياة الديرية مع إبراهيم الكشكري (+588). وصار جبل ايزلا لكنيسة المشرق، بمثابة جبل أثوس للكنيسة اليونانية. كما تقدم الفكر اللاهوتي بفضل الدراسات في مدرسة نصيبين. لكن المدرسة عرفت محنة حقيقية ايضًا، بسبب الجدال الاهوتي حول تعليم ثيودورس أسقف مصيصة، قاده مديرُها الملفان حنانا الحديابي الذي اعترض على سلطة الأخير المطلقة في تفسير الكتاب المقدس. أدى هذا الاختلاف الفكري إلى ان يتركها قسم من الأساتذة والطلاب، يقال ان عددهم كان يربو على300. وكنتيجة، حرّم مجمع الجاثليق سبريشوع (596)، كل من يرفض تفسير ثيودورس وتعليمه، وراح مجمع غريغوريوس (605)، يعلنه المعلم الأنموذج لاستقامة العقيدة في هذه الكنيسة.
عامل آخر- دفع كنيسة المشرق إلى بلورة لاهوتها الكريستولوجي- هو إقامة السريان المغاربة مفريانا لهم في تكريت، وحضورهم المؤثّر. وإثر اجراءات جوستينيانس الامبراطور الروماني (518-527)، بفرض عقيدة مجمع خلقيدونية على مسيحيي امبراطوريته، التجأ أساقفة (الطبيعة الواحدة) الى المملكة الفارسية، وأقاموا فيها مراكز مُهمّة، وكانت احدى نتائج هذا اللجوء ازدهار ملحوظ للسريان الأرثوذكس في المنطقة، وكان للأسقف يعقوب البرادعي دور متميز. وفي عام 629 تمَّ تنظيّم هذه الجماعة رسميّا في بطريركية انطاكيا. وفي عام 612 نظّم الشاه كسرى الثاني (591-628) مناظرة لاهوتية حول عقيدة الكنيستين الشقيقتين. وكان الملك قد سبق فمنع المشارقة من انتخاب بطريرك جديد لهم، فأدار الأمور باباي الكبير وآبا الاركذياقون من 608 الى 628. وحضر المناظرة، عدة اساقفة مشرقيون من بينهم إيشوعياب الجدالي ورهبان، وأبرزهم كوركيس من جبل ايزلا (كان مجوسيا واسمه ميهرانكوشناسب وقد استشهد). ويبدو أنهم اعتمدوا أطروحات باباي الكبير (551-628) الكريستولوجية ومصطلحاته التي جاءت في كتابه الموسوم " الاتحاد". وبالرغم من أن المناظرة اللاهوتية لم تكن مجمعًا للأساقفة، إلا أن كنيسة المشرق أدرجتها ضمن قوانينها ومجامعها، وعدّتها صياغة لاهوتية رسمية.
قام الشاه كسرى الثاني عام 618-619 بغزو فلسطين، وجلب معه ذخيرة صليب المسيح وأوانيَ مقدسة أخرى، وغزا مصر، ولكن أقحمه الإمبراطور الروماني هرقل (610-641)، مما أثار نقمة عند الفرس، فثاروا على كسرى واغتالوه. وجاءت الملكة بوران وقد أبدت رغبتَها في عقد مصالحة بين الإمبراطوريتين. وكانت قد أذنت ان تختار كنيسة المشرق، رئيساً أعلى لها، فكانت النتيجة ان اختير أسقف بلد، إيشوعياب الثاني الجدالي. وهو الذي كلفّته بقيادة مباحثات الصلح بين المملكتين. فذهب الى المنطقة الغربية، وأعاد ذخيرة الصليب الى القبر المقدس، وفاوض الرومان وعقد معهم صلحًا عام 630.
إلا أن تغييرًا جذريًا حصل في الجنوب، عندما حاصر العرب المسلمون المدائن عام 637 في معركة القادسية، وهرب يزدجرد الثالث إلى منطقة مَرو. وتوفي عام 651 ومعه انتهت الإمبراطورية الفارسية – الساسانيّة. أما الجاثليق إيشوعياب، فكان قد التجأ في آخر الأمر إلى كركوك (قلعة القائد سلوقُس)، حيث توفي في سنة 646 ويكون آخر بطريرك شاهد انهيار الإمبراطورية الفارسية، وأول من عاصر قدوم العرب المسلمين. كان المسيحيون قد عانوا الكثير من الظلم الفارسي، لذلك رحبوا بالقادمين الجدد، وتعاونوا معهم كأمر واقع status quo ودافعوا عن حقوقهم. اما المسلمون، فقدموا لهم الحماية لقاء دفع الجزية التي كانت في بعض الأحيان باهظة.
بلدان الانتشار
يشهد التاريخ بنشاط تبشيري منقطع النظير، قامت به كنيسة المشرق، إمتد الى الشرق الاقصى من جزيرة سومطرة وسريلانكا (سيلان سابقا) وسواحل الملابار الهندية والصين الى جانب الجزيرة العربية.
الحِيــرة والبلاد العربية
لقد انتشرت المسيحية المشرقية بين عدة قبائل عربية، من بينها قبائل الحيرة، التي أقامها الفرس امارة على الضفة اليمنى من نهر الفرات، وعرفوا باللخميين او المناذرة، لتكون همزة وصل بينهم وبين العرب، كما كان الرومان قد اسسوا امارة الغساسنة العربية في بلاد الشام، للهدف نفسه.
يقال إن الأسرى الرومان، الذين جلبهم هرمز الاول (272-273)، هم بشّروا بالمسيحية. وفي القرن الخامس اصبحت الحيرة ابرشية مشرقية، ولها أسقف اسمه هوشع، اشترك في مجمع اسحق عام 410. بدأت المسيحية تقوى على يد ملكها امرئ القيس الاول، ثم على عهد حفيده، النعمان بن المنذر، وغدت الحيرة من المراكز المهمّة في حركة التبشير بين القبائل العربية. وكان للمناذرة أثر كبير في بناء الديورة مثل: دير اللج، ودير مارت مريم، ودير هند الكبرى، ودير هند الصغرى، ودير الجماجم، ودير عبد المسيح. لقد أدّى تأسيس الكوفة في الإسلام الى أُفول نجم الحيرة.
الهند
لا نعرف على وجه التدقيق، تاريخ تبشير الهند، لكن بحسب التقليد المتداول، ان الرسول توما هو من بشرها، عبر بلاد ما بين النهرين. ولا يزال مسيحيو أقليم ملابار ينتسبون اليه. كما أن هناك تقليدًا عريقًا مفاده ان توما القناني قننيا، من قنى جنوب المدائن بالعراق، قصد الهند بِمعّية قافلة من العائلات عام 345 وسكن في "Kottayam" ولا تزال هذه الجماعة تسمي نفسها قناناي، ولها أسقف وادارة مستقلة. وتقاليدها شبيهة بعاداتنا المشرقية. كما ان الرحالة قزما Cosmas Indicopleustes يذكر نحو عام 553، انه وجد في الملابار بالهند أسقفًا مرتبطًا بكرسي فارس، وكذلك وجد اسقفًا آخر في جاوا. ولما استولى البرتغال على الهند اقام اليسوعيون اسقفًا من بينهم على الاقليم، وغيّروا الكثير من طقوسهم وعوائدهم، وفُرضت عليهم في مجمع ديامبر1599، طقوس وممارسات لاتينية.
واستاء بعض مؤمني الملابار من هذا التغيير، فالتجأوا الى البطريركية الكلدانية عدة مرات لاقامة اساقفة كلدان عليهم، لا سيّما في زمن البطريرك اودو، لكنها باءت بالفشل بسبب إصرار الكرسي الرسولي على ربط كنيسة ملابار مباشرة بروما. امام ذلك التجأ عدد كبير منهم عام 1665، الــى بطريرك السريان الارثوذكس الانطاكي، ملتمسين أسقفًا سريانيًا، ومُوبْدين استعدادَهم لاتباع الطقس الانطاكي، فلبىّ طلبهم، وسموا ملانكار. وتعد كنيسة ملابار أكثر من ثلاثة ملايين ونصف مؤمن، عدا نفوس الكنائس الاخرى.
الصين
خير دليل على وصول المسيحية المشرقية الى الصين هو النصب الأثري المكتشَف عام 1625 في سيان فو في مقاطعة شانسي، حيث أقيم عام 781، لتخليد ذكرى وصول مبشرين من كنيسة المشرق إلى بلاط إمبراطور الصين سنة 635، هناك نشـروا الإنجيل وأقاموا كنائس وأديار ومدارس. وصار لهم كراسٍ أسقفية يضعها كتاب المجدل في المقام الثاني عشر في جدول أبرشيات بطريركية بغداد.
هذا النصب الأثري من الحجر، يبلغ ارتفاعه مترين و26 سم وعرضه 86 سم وسمكه 25 سم. نقش في القسم الأعلى منه جوهرة نفيسة ترمز إلى جوهرة الإنجيل (متى 13-44)، يتوسّطها إطار خماسي تطوّقه حيتّان، وفي قمته صليب على طراز مشرقي أصيل متساوي الإطراف. في الإطار غمامة وزهرة وغصنان صغيران وتسعة رموز صينية تقول: " نصب تذكاري لانتشار ديانة النور الآتية من مملكة طاشي – شرقنا – في الامبراطورية الوسطى".
تأتي في المتن كتابة صينية متكونة من 1900 رمز وكتابة سريانية بالخط الاسطرنجيلي. تقسم الكتابة الى ثلاثة اقسام: 1-لاهوتي عقائدي، 2-تاريخي، 3-تقريظي.
يشير القسم التاريخي الى مجيء مبشّرين من الشرق لنشر الخبر السار على ارض الصين: "أتى من بلاد الشرق، شخص تقي يحمل معه كتبا مقدسة، يدعى ألبن – على الأرجح هي التسمية الصينية لاوراهام / ابراهيم – الى بلاد الصين في عهد الإمبراطور ثايو تسونغ عام 635م، وقد أرسل الامبراطور وزيره الأول، الدوق فانغ هسوانلينغ، ليستقبل الزائر ويقوده الى البلاط والكتب التي كانت بمعيته، ترجمها موظّفو المكتبة الامبراطورية، لان جلالته أحّب أن يطلّع شخصيًا على هذا الدين. فانتشرت شريعة الله في الولايات العشر وتمتعت الإمبراطورية بسلام تام، وكانت المدن ملأى بالكنائس والبيوت مغمورة بسعادة الانجيل". ثم يذكر مجيء مبشّرين آخرين.
الخاتمة: "إن امبراطورنا الحالي من السلالة العظيمة (تنغ) الجالس على العرش (780م) أقام هذا الاثر في السنة الثانية من ملكه، في اليوم السابع من الشهر الأول، أي في اليوم الكبير (الأحد 4 شباط 781م) في عهد السيد الروحي الكاهن هنيك شو (البطريرك حنا نيشوع) الذي له السلطة المطلقة على جماعة ديانة النور في الشرق طرًا". يتبع بالسريانية: "في ايام أبي الآباء مار حنا نيشوع الجاثاليق البطريرك" وثم بالصينية: "كتب من قبل لوهسياسين مدير الاشغال العامة في نسياشو ولاية جكياسنغ"، وبالسريانية: "في سنة 1092 يونانية (781م) مار يزدبوزيد الكاهن وخوراسقف كمدان، ابن المرحوم ميليس، كاهن بالخ، مدينة تاحورستان، أقام هذا النصب التذكاري".
بعد ذلك تأتي باللغة السريانية أسماء الأشخاص وهم: أسقف وخوراسقف واركذياقون و24 كاهناً وبعض الرهبان وشماس إنجيلي وحوالي اربعين علمانياً.
ولنا شاهد آخر على ازدهار المسـيحية المشرقية في أرض الصين حتى القرن الثالث عشر، هو انتخاب مطران بكين يابالاها الثالث بطريركا (1283-1318)، وإقامة رفيقه الراهب صوما زائرًا عامًا. في هذه الحقبة كانت مناطق عديدة من الغرب يلفّها الجهل والوثنية. كفى ان يكون إكليروس كنيستنا وشعبها هم اول من حملوا راية المسيح واسمه الى بلاد الهند والصين والعجم. وأقاموا فيها كنائس وأسقفيات والعديد من الديورة، فطريق الحرير غدا طريق البشارة – الإنجيلية.
إستنادا إلى ما تقدم، نقدر ان نحدّد جغرافيًا مواطن السريان المشارقة. شرقًا: ببلاد فارس-إيران، وغربًا بالبحر الابيض المتوسط، وشمالاً بآسيا الصغرى (تركيا)، وجنوبًا بشبه الجزيرة العربية وبلدان الخليج، وخصوصا بلدان الشاطيء الغربي التي كانت تعرف ببيت قطراياي
ومن المدن المهمّة: مراغة، اورميا، سوسه، جنديسابور، شوشتر، الأحواز، الرها، نصيبين، دياربكر-آمد، ماردين، المجدل، دهوك – بيت نوهدرا، اربيل، مركا – المرج، عقرة، القوش، نينوى - الموصل، كركوك، حلوان، تكريت، سامراء، عانة، حديثة، الأنبار، بغداد (ساليق وقطيسفون)، حيرة، كشكر، ميشان.
3-العصر العباسي وحركة الترجمة
ظلّت المسيحية مزدهرة في هذه المناطق، حتى بعد الفتح العربي، وصارت فيها مؤسسات: مدارس وبيمارسانات (مستشفيات) وأديار. يقول الأب هنري لامنس اليسوعي عن انتشار لغة السريان: "من عجيب الأمور ان انتشار لغة الآراميين بلغ في عهد السلوقيين مبلغًا عظيمًا، فأضحت اللغةَ السائدة في كل آسيا الساميّة، أعنى في سوريا وما بين النهرين وبلاد الكلدان والعراق وجزيرة العرب. وكان العرب المسلمون أيضًا يدرسونها لكثرة فوائدها. ولا نظن ان لغة أخرى، حتى ولا اليونانية، جارت السريانية في اتساع انتشارها،
اللهم إلا الانكليزية في عهدنا". أما سليم مطر، فيبيّن مدى تأثير السريانية على العربية قائلا: "اللغة العربية طوّرت نفسها، وكوّنت نَحْوَها من خلال تجربة اللغة السريانية". قد يكون هذا التأثير حصل، لما اعتنق قسمٌ من الآراميين (السريان) الإسلام، وأصبحوا موالين لإحدى القبائل العربية أو لأحد القادة المسلمين الكبار.
عندما جاء العرب المسلمون إلى ما يسمى اليوم بالعراق، كان تقريبًا نصف السكان مسيحيين، يضاف إليهم قسم كبير من سكان إيران. وعرفوا انتشارًا واسعًا كما جاء في مسلة سينغانفو، (الصين) عام 781 التي تخلد مجيء أول فريق من المبشرين المشارقة إليها عام 653. وكان الجاثليــق إيشوعياب الثاني قد رفع اسقفيــة حلوان (في إيران) الى رئاسة أسقفية وكذلك أسقفية هرات (أفغانستان) وأسقفية سمرقند (اوزبكستان) والملابار (الهند) والصين. وهذا يمثل عمق الروح الارسالي لكنيسة المشرق ومدى انتشارها الواسع.
إنتشرت اللغة العربية بسرعة في البلدان التي احتلّها المسلمون (دار الإسلام). وكان الخليفة الأموي الوليد (705-715) قد أمر بجعلها اللغة الرسمية للإدارة العامّة. وهذا الجو الاجتماعي– الاقتصادي– السياسي جعل المسيحيين يستخدمونها، في حين بقيت اللغة السريانية لغة الأدب والطقوس الدينية. وان أهل الكتاب المسيحيين واليهود والزردوشتيين، عُدّوا أهل ذمة (أي في ذمة الغالبية المسلمة أمام رفضهم الإقرار بنبّوة محمد)، شرط ان يدفع الذكور البالغون الجزية، جزية الرأس التي كانت أحيانا باهظة. فضلا عن ذلك، فُرض عليهم في فترات معيّنة، زيًا خاصًا أو الزنّار، وفي القرن الثاني الهجري أصبحت الضوابط أكثر تقيّدا.
في بداية العصر الأموي قاد كنيسة المشرق بطريرك قيادي فكراً وإدارةً هو إيشوعياب الثالث المعروف بالعظيم (650-658). دعم أولوية الكرسي البطريركي، وقام باصلاحات عديدة منها الليترجيّة. عاونه فيها الراهب الموهوب عنانيشوع. إليهما يعود تنظيم السنة الطقسية وترتيب الصلاة الرسمية ورتب الاحتفال بالأسرار المقدسة. ومن بين عدة رتب قداس "انافورا" إنتقيا ثلاثًا: انافورا اداي وماري التي تعود الى نهاية القرن الثالث وبداية الرابع، ثم الاثنتان الأخريان تعودان الى ثيودورس أسقف مصيصة ونسطوريوس بطريرك قسطنطينية المعدّ أحد قدّيسيها العظام. وعندما انتقلت الخلافة الى بني العبّاس، وصار مقرّها في بلاد ما بين النهرين (العراق) وشيّدت بغداد، مدينة السلام عاصمة لها ومركزا للمسلمين عام 762، أسهم المسيحيون إسهامًا واسعاً في الرصيد الحضاري الإقليمي والعالمي مع العرب "أبناء عمومتهم". شكلوا حالة متميزة في تاريخ التفاعل الثقافي في العالم المعروف انذاك. جميع المصادر التاريخية القديمة والحديثة تعترف بدورهم المرموق في عملية الترجمة والنهضة الكبرى التي قادها الخلفاء العباسيون. فقد قاموا بنقل ما لا يُحصى من الكتب من اللغتين السريانية واليونانية الى العربية. يكفي ان نسجل هنا مثالاً واحدًا لإسهام المسيحيين في إثراء الثقافة العربية في بغداد العباسيين: ان الاديب الشهير حنين بن اسحق العبادي من الحيرة (قرب الكوفة) ولغته الأم السريانية، قام بنقـل 39 كتابًا من اليونانية الى العربية، لكنه في الوقت عينه ترجم 95 كتابا الى السريانية وحدَها. لم يكن المسيحيون مجرد نقلة، بل كانوا عنصر إبداع حقيقي، فقد أضافوا الى ما نقلوه خِبرتهم ومعارفهم، وبلوروا وطوّروا ورفدوا العرب والمسلمين، ومن خلالهم العالم بكل نافع من العلوم كلها.
اشتغل المسيحيون في الإلهيات والفقه والفلسفة والمنطق والطبيعة وما بعد الطبيعة والرياضيات وعلم الهيئة (الفلك) والطب والفيزياء والكيمياء والهندسة والبناء والموسيقى والأدب والزراعة والتجارة. وكان لنشاطهم الاقتصادي والثقافي والتجاري والاجتماعي الأثر البالغ في الدولة الفارسية ثم العربية، وخصوصًا في عصر العباسيين حيث شهدوا نقلة نوعية، اذ اهتم هؤلاء الخلفاء بالعلم والثقافة وراعوا العلماء والمفكّرين وأرسلوا فرقًا لجمع الكتب وترجمتها، وأغدقوا عليهم المال والهدايا كحافز تنافس بين الفرق من أجل إنتاج أوسع. واستفاد العرب من معطيات هذا الإرث الحضاري في ضبط المفردات الفقهية وكذلك الغرب المسيحي انتفع من هذه الترجمات التي نقلت عبر الأندلس وجزيرة صقلية إلى اللاتينية في تكويـــن
اللاهوت المدرسي. ومن بين هؤلاء المفكّرين العظام نذكر على سبيل المثال بختيشوع وعائلته في مدرسة جنديشاهبور الطبية، الذي خدم هو وأبناؤه عدة خلفاء، وحنين بن اسحق (+873). فضلاً عن الجاثليق طيمثاوس الكبير (780-832) الذي كان اديبا غزيـــز
الانتاج ومترجمًا بارزا، ناظر الخليفة المهدي حول مسائل دينية: مسيحية واسلامية. وقد نقل مقر كرسيّه البطريركي الى بغداد، وهذا الامتياز أعطي لكنيسته وحدها. ومجموعة الرسائل التي كتبها في شتى المجالات الدينية والفكرية تظهر سعة فكره واقتداره على إدارة الكنيسة والذود عنها. والمُلفِت للنظر ان هذا الإرث الأدبي لم يحتكره الإكليريكيون، بل نجد علمانيين عديدين متكلمين (لاهوتيين) كتبوا في اللاهوت والفقه.
وبالرغم من أن السياسة العباسية تسببت في اعتناق مسيحيين عديدين الإسلام، الا ان كنيسة المشرق عرفت انتشارأً واسعًا في بلدان أخرى، وتأسست أسقفيات في دمشق والقدس والإسكندرية وجزيرة قبرص وبلدان الخليج. وسلك رهبان مرسلون طريق الحرير، وحملوا إلى جانب الإنجيل لغتهم السريانية ولترجيّتهم المشرقية.
4-الحكم المغولي والإتصالات مع الغرب المسيحي
لم تكن أحوال المسيحيين في عصر المغول على وتيرة واحدة. فبعض ملوكهم تقبّل المسيحية وأظهر تعاطفًا مع الكنيسة، وآخرون كالسلطانين أحمد وقازان، إضطهدوهم، وهدموا كنائسهم وأديارهم. من المؤكد ان جهود المبشرين المشرقيين لاقت صعوبات جمّة في الصين والتبت بسبب تقلب الحكومات، بينما لاقت جهودهم نجاحًا وسط الشعوب المغولية. وعندما غزا جنكيزخان هذه المناطق في القرن الثالث عشر، واحتل بغداد عام 1258، كانت المسيحية المشرقية قد انتشرت بين القبائل المغولية، ولدى غزوه الصين عادت المسيحية المشرقية اليها وانتعشت. ويعّد عبديشوع(+1318) قائمة بعشرين رئاسة أسقفية ومئتي أسقفية خاضعة لجاثليق المشرق. ولما جاء تيمورلنك (1396-1405) واعتنق معظم المغول الاسلام، إضطهد المسيحيين ولاحقهم، فاضطرّوا الى اللجوء نحو مناطق كردستان الجبلية. أما المبشرون الغربيون، فقد قدِموا إلى الشرق مع استيلاء الصليبيين على الأراضي المقدسة. وأول لقاء، تمّ بينهم وبين المشرقيين كان عندما جاء رهبان فرنسيسكان وكبوشيون ودومنيكان إلى هذه المناطق: البصرة وبغداد والموصل وآمد، واستمالوا إليهم الناس بواسطة الطب. ومن بين هؤلاء المرسلين البارزين نذكر: وليم أوف ربروك (William of Rubruk +1270) وريكوردو دي مونتي كروجي (Ricordo da Monte Croce +1320) وجيوفانيي دي مونتيكورفينو (Giovanni da Montecorvino +1328). وفي عام 1340 حصل اتصال آخر مباشر عندما انضّم فريق من المسيحيين المشرقيين في قبرص إلى الكنيسة الكاثوليكية، وسُمّوا كلدانًا. وهذا الاتحاد مع كنيسة روما جُدد عام 1445 لما أعلن مطرانهم طيمثاوس أسقف طرسوس ايام البابا اوجين الرابع (1431 -1447)، اتحاده إثر انعقاد مجمع فلورنسا -فيرارا الوحدوي (1438-1445). وحمل طيمثاوس هذا لقب رئيس اساقفة الكلدان المقيمين في قبرص "Archiepiscoporum Chaldeorum, qui in Cypro-sunt" إلا أن هذا الاتحاد لم يدم طويلاً بعد وفاة طييمثاوس 1489، فانصهر المشرقيون في الجماعات الكاثوليكية المحلية اللاتينية والمارونية.
واتصل الدبلوماسيون المغول بالغرب. والأكثر شهرة من بينهم هو ويكور أو الراهب برصوما الذي كان مساعدا للجاثليق مار يهبالاها الثالث المغولي (1291-1317). أوفده الملك المغولي أرغون خان، إلى الإمبراطور البيزنطي في القسطنطينية، اندرونيكوس الثاني، والى ملك فرنسا، فيليب الرابع، وملك انكلترا، أدور الأول والى البابا نيقولاوس الرابع (1288-1292)، لتشكيل جبهة مشتركة من أجل إنقاذ الأراضي المقدسة. وكانت الحروب الصليبية في أشدها، لكن مساعيه باءت بالفشل. وفي روما احتفل برصوما بالقداس في كنيسة مار يوحنا اللاتراني وبحسب الطقس المشرقي، وحضره البابا وتناول القربان من يديه. وبواسطة برصوما، تعرّفت الدوائر الرومانيةcuria على كنيسة المشرق التي لم تكن معروفة لديهم بشكل جيد من قبلُ. وبعد موت برصوما (10/1/1294) استمرت المراسلات بين الكرسي ألرسولي ويهبالاها ولكن من دون نتائج تذكر. وفي زمن يهبالاها وتحت الحكم المغولي الأول، عرفت كنيسة المشرق انتشارا واسعًا من القدس إلى الصين والهند. وفي بغداد سُمحَ للبطريرك الإقامة في أحد قصور العباسيين. ولكن لم يدم الوضع على هذه الحال، فعندما جاء الخان الثاني غازان، ابن أرغون واعتنق الإسلام رسميًا، ضايق المسيحيين كثيرًا، ودمرت بعض الكنائس أو حولت إلى مساجد، ونهبت دار البطريركية. وبدأ أفول أهم كنيسة مُبشِّرة في القرون الوسطى. وقام خلفه طيمثاوس الثاني (1318-1331) بعقد مجمع لإجراء بعض إصلاحات ولملمة قوى الكنيسة، ويُعدُّ آخر مجمع يذكر لهذه الكنيسة قبل القرن التاسع عشر. وفي العقود الأخيرة من القرن الرابع عشر، مسحت حملة تيمورلانك العسكرية العديد من أبرشيات كنيسة المشرق، وصارت الأبرشيات النائية معزولة عن مركز رئاستها الأم، وامّحت شيئا فشيئا في الصين بعد اندحار المغول.
5-خط سولاقا وقيام الكنيسة الكلدانية
في القرن الخامس عشر إنحسرت أبرشيات كنيسة المشرق في شمال بين النهرين وفي جبال هكاري. وفي سنة 1450 قام البطريرك شمعون الباصيدي (+1497) بحصر البطريركية في أبناء عائلته وحدها (العائلة الأبوية). وسَنَّ قاعدة لتوريث الجاثليق من هذه العشيرة، مما جعل عائلة واحدة تهيمن على الكرسي البطريركي. وأدّى هذا الإجراء إلى انقسام بين صفوف المؤمنين لا سيّما عندما كان يتولى الكرسي صبيّ صغير. ففي عام 1539 إضطر البطريرك شمعون السابع برماما (1538-1558) إلى رسامة ابن أخيه الذي لم يكد يبلغ الثانية عشرة ميترابوليتًا لعدم وجود شخص غيره في العائلة الأبوية. وللأسباب عينها، شغرت عدة أبرشيات. وبعد بضع سنين رسم فتى أخر عمره خمسة عشر عامًا، فتفاقم التذمر بين أبناء الكنيسة لا سيّما في مناطق آمد (ديار بكر) وسعرد، فالتقى المعارضون للتوريث في الجزيرة ثم في الموصل في شباط 1552 وحضر هذا اللقاء الموسَّع فضلاً عن وجهاء الموصل وعدد من الكهنة والرهبان، أسقف اربيل وأسقف سلماس وأسقف أذربيجان، واختاروا بالإجماع يوحنا سولاقا، من عائلة بلّو، رئيس دير الربّان هرمزد في جبل ألقوش بطريركًا. ولعدم وجود رئيس أساقفة يقوم برسامته، أوفدوه إلى روما للرسامة ولنيل اعتراف الكرسي ألرسولي. ولقد رافقه وفد من أشراف الشعب، وتوجهوا أولاً إلى فلسطين لزيارة العتبات المقدسة، ثم تابعوا سفرهم الى روما، وكان البابا آنذاك يوليوس الثالث. هناك أعلن إيمانه الكاثوليكي في عشرين شباط 1553، وحصلت رسامته أسقفا في نيسان من نفس السنة. وانتشر في روما خبر بوفاة البطريرك برماما، وعلى إثره قام الكرسي ألرسولي بتثبيت سولاقا "بطريرك الموصل" في مرسوم مؤرخ في 28 نيسان 1553 "وألبس الدرع المقدس divina disponente clementia" باسم "شمعون الثامن سولاقا".
على الأرجح تّم هذا التحوّل بتأثير المرسلين الغربيين.
وفي عودته، رافقه بعض الرهبان الدومنيكان للمساعدة في نشر الكثلكة. وصل يوحنا سولاقا آمد في 12/11/1553 وجعل فيها كرسيّه وقوّى موقفه ورسم متروبوليتين وثلاثة أساقفة: لآمد والجزيرة وماردين وسعرد. وحصل عام 1553 على اعتراف الباب العالي (السلطان العثماني). لكن البطريرك برماما، الذي كان لا يزال في قيد الحياة، مارس على باشا العمادية تأثيرًا، فدعا سولاقا إليه، فلما وصلها، قام باعتقاله وتعذيبه. وأخيرا مات في 12 كانون الثاني من عام 1555. وقد عدّته الكنيسة الكلدانية شهيد الاتحاد. واجتمع الاساقفة الخمسة الذين كرّسهم سولاقا، واختاروا خلفًا له عبديشوع، مطران الجزيرة الذي كان في السابق راهبًا (1555-1570). سافر الى روما ونال التثبيت من البابا بيوس الرابع عام 1562 وجعل مقرَه في دير بقرب سعرد حيث عاش حتى وفاته. وبسبب الأوضاع الأمنية المتدهورة وبغية تقديم خدمة رعوية أفضل، سكن خلفاؤه في سعرد ثم في سلماس وخسراوا وأورميا. وبقوا في الشركة مع روما إلى القرن السابع عشر، ولكن لم يسافر أحدهم إلى روما لنيل التثبيت من الكرسي ألرسولي. وأن بعضهم لم ينل الاعتراف الرسمي، وأن البعض الآخر أرسل صورة إيمانه وقامت روما بتثبيته، نذكر على سبيل المثال البطريرك شمعون التاسع دنحا (1580-1600)، وقد حمل رسالة تثبيته المبعوث البابوي ليونارد هابيل عن طريق حلب، وسلمت عام 1585. وعند نقل البطريرك شمعون الثالث عشر دنحا (1662-1700) كرسيّه الى قوجانس في جبال هكــــاري، عاد هذا الخط من البطاركة إلى العقيدة التقليدية (النسطورية)، وليس واضحًا إن كان قد أعاد معه التوريث.
المُهم أنه وُضِعَ حدٌ لتوريث الرئاسة الكنسية عام 1974 بوفاة مار شمعون الثالث والعشرين ايشاي، في سان فرنسيسكو في الولايات المتحدة الأمريكية. ومن الجدير بالذكر ان رئاسة كنيسة المشرق الأشورية تنحدر من خط سولاقا ولا تزال تتواصل معه، في حين سلسلة الكنيسة الكلدانية تتواصل مع الخط الآخر، الذي كان نسطوريًا، أي خط القوش-الموصل.
6-ثلاث سلاسل بطريركية
عندما تُوفي البطريرك شمعون برماما عام 1558 خلفه ابن أخيه إيليا السـادس بر كوركيس (1559-1591). وأقام هو وخلفاؤه في دير الربان هرمزد في جبل القوش بقرب الموصل. وبسببهم وتأثيرهم جعل خلفاء سولاقا يقيمون في آمد -دياربكر. وان خليفته ايليا