البلد : مزاجي : الجنس : عدد المساهمات : 8486تاريخ التسجيل : 16/06/2010الموقع : في قلب بلدي المُحتَلالعمل/الترفيه : طالب جامعي
موضوع: عندما يفقد الشيب وقارهُ 12/9/2015, 2:54 pm
عندما يفقد الشيب وقارهُ
سعد توما عليبك
من المعروف بأن عمر الإنسان يقاس بالسنين ، و هذه السنين هي التي تقسم مراحل حياة الإنسان التي تجمع بين صفحات أيامها مشاعر السعادة والحب و الفرح و المتعة و نشوة النجاح ، كذلك فيها الجانب السلبي كالشقاء و الألم والمعاناة والمرض، فهي ( اي الحياة) يومان كما يقال، يوم لك و يوم عليك ، وهذه الأيام المتعاقبة من عمر الإنسان بحلوها و بمرها و التي لا يمكن ايقافها او استرجاعها، هي تسجيل كامل لكل تفاصيل حياته منذ ساعة ميلاده الى ساعة مماته.
هناك أمر شائع لدى عامة الناس وهو ربط عمر الإنسان بعلاقة طردية مع خبرته في الحياة، أي بمعنى آخر كلما قطع الانسان شوطاً من حياته كلما زادت تجاربه عن الحياة وألبسته رداء الحكمة و زادت عنده المعرفة و تنكشف له اسرار هذه الدنيا و خباياها ، و لهذا ما زال البعض متمسكاً بالمعادلة التي تقول:" اكبرنا عمراُ اكثرنا تجارباً في الحياة". وهذه المعادلة ليست دائماً صحيحة و لا تعني ضرورة تطابقها مع الواقع الحياتي، وذلك لوجود سببين مهمين على الأقل يتحكمان فيها:
اولهما ، ان تفاصيل الحياة و كثافة و صخب و تشابك أحداثها و اماكن وقوعها تختلف من شخصٍ الى آخر ، و بالتالي ستختلف معها حتماً الخبرات المتراكمة والحِكمْ والتجارب المكتسبة من خلالها من شخص الى آخر أيضاً.
و السبب الثاني ، هو بٌنية الانسان الفسيولوجية نفسها ، فهي تختلف من شخص الى آخر في ما تحمله هذه البنية من حواس و طاقة و عقل و ادراك وقوة التحمل و غيرها من الإمكانبات و القدرات الذاتية،و مدى قابلية الشخص في توضيفه لبنيته في فهم الحياة و التعامل مع أحداثها.
وبالرغم من ان عمر الانسان ليس مقياساً في نجاح أعماله و صواب آرائه ، و لكن يبقى للشيب وقاره وخاصة عند الشرقيين امثالنا، لما تفرضه علينا عاداتنا و تقاليدنا المتوارثة ، و بحكم التزامنا الديني و الاخلاقي في احترام الكبير و الأخذ بتوصياته و أرائه.
فكلما مُدِّ العمر مع الإنسان و غزا الشيب مفرقه ، برزت معه هيبته و زاد وقاره وتحلى أكثر بالهدوء و الرزانة ، هذه هي الصفات العامة في الحالات الإعتيادية المتعارف عليها ، لكن الأمر قد يبدو مختلفاً حين يشذ عن هذه القاعدة و يزيغ عنها بعض النفر، حيث نجد أحدهم و هو قد دخل المحطة الأخيرة من حياته ولكنه يتصرف تصرفات صبيانية غير لائقة، و كأنه قد عبر مرحلة الإتزان العقلي فأصبح لا يسيطر على مشاعره ، بالإضافة الى نواياه المغلفة بالخبث والحقد الواضحين تجاه الآخرين دون سبب أو بأسباب من صنع خياله، و يبدو جلياً بأن الحقد و الحسد والكراهية هي كل ما اكتسبه من سنين عمره، و هي كل انجازاته و رصيده في الحياة ، لأن الطبع السيء يغلب التطبع ، كما و من المحتمل أن يصبح وسيلة سهلة للأشرار في اقتياده كما يبغون جاعلين منه مطية لتنفيذ نواياهم الخبيثة.
عندما يوغل الإنسان في خريف العمر و تقترب ساعة وداعه لهذه الدنيا، يفترض ان يستغل أيامه الأخيرة من الحياة لعقد لسانه و التنبه عن الزلاّت و الإنفعالات التي تقلل من هيبته وتسيء الى شخصيته و التي قد تسبب أيضاً في كسر الأواصر الإجتماعية و الإنسانية ، و من ثم عليه أن يفكر في كيفية التكفير عن ذنوبه و اخطائه التي عملها في مستهل أيام شبابه ، لا أن يفعل العكس و يقع في مستنقع الشر و الرذيلة ، و يقوم بايذاء الطيبين حوله.
يسعى العجوز في الأيام الأخيرة من حياته الى التعامل ببشاشة و طيب المعشر مع من حوله للتقترب من قلوبهم و كسب ودهم و احترامهم. و هذه الأيام المتبقية من الحياة يمكن أن تصبح فرصة لتجميل صورته و تأطيرها بذكريات مشرفة ، وليست لجعلها صورة معتمة و قبيحة يشمئز منها من عرفه.
كما يجب على هذا العجوز ان يطول رقبته كثيراُ( كما تقول الحكمة)، لكي يتسنى له ترتيب و تنقيح الكلمات ليمنع لسانه عن النطق بكل ما هو قبيح و بذيء ، ليترك انطباعاً جميلاً عنه لدى الآخرين ، و ليقرأ من يعرفه على روحه الرحمة بعد مماته ، لا ان يجعلهم يلعنوه حتى وهو في لحده.
و المتوقع أيضاً من المُسن المحترم لذاته بأن يلتزم بالكرم وبطيب الأخلاق و حب الآخرين ، لكي يتهافت عليه الجميع بفرح و بإلقاء التحيات و السلام عليه عند رؤيتهم له ، لا ان تسبب له تصرفاته الى جعله منبوذاً و مهاناً وغير مرغوب حتى في رؤيته أو الرد على تحيته، و هذا ما سيدفعه الى الإنزواء التدريجي و إقتصار علاقاته مع من هم على شاكلته.
و أخيراً قد ينسي هذا المخلوق بأن هناك من يرثه بعد مماته ، وهم لن يكونوا ورثة أمواله و ممتلكاته فقط ، بل ايضاً سيرثون ذكراه عند الآخرين ، فما أثقلها من تركة.
و اذا كان مثل هذا الإنسان لم يتعض من سنين الحياة كلها ، فهل سيتعض في قليل من الأيام و بقليل من الكلام ياترى؟؟. ..انه أمر صعب جداً.. لمن يكون مجبولاً بالحقد و الكراهية ، حيث يقول المثل الشعبي " طبع بالبدن ما يغيرة غير الكفن".
فالوقور يبقى وقوراً طالما احتفظ بوقاره لنفسه وعند الآخرين ، و الذليل يبقى ذليلا طالما طبع الذل يسري في عروقه.
والويل للإنسان الذي لا يتعض حتى عندما يجلده الزمن بأذرع الساعات القاسية!!.