سهل نينوى ومشروع المحمية الدولية «
في:09.09.2014 في 21:08 »
سهل نينوى ومشروع المحمية الدولية
لويس إقليمسلعلّ عجزَ الدولة الفيدرالية في حماية مناطق الأقليات عمومًا، هذا العجز القائم حاليّا بل منذ السقوط الكبير في 2003، وتوالي الانهيارات الأمنية وتواصل التجاذبات بين الفرقاء، أصدقاء الأمس وأعداء اليوم، المتصارعين مذ ذاك، على تقاسم كعكة العراق،إلى جانب حقيقة فرض الجانب الكرديّ أحقيّته عليها من طرف واحد، هي السبب مجتمعةً في ضياع حقوق وتشرّد عوائل وفقدان منازل وأملاك وخسران مقتنيات وعقارات وتعرّض أعراض نساء وفتيات وأطفال للسبي والاغتصاب وبيعهنّ في سوق النخاسة من قبل أزلام دولة الخلافة الإسلامية بعد استباحتها مناطقهم وتوسعها نحو العمق العراقي بقوّة. هذه الجملة الطويلة، سقتُها كي أدخل في تفاصيل أعمق حول الدعوات القائمة حاليًا لتحقيق رغبة بل أمنية أصحاب الشأن بالمنطقة، والتي هي تحصيل حاصلٍ للنتائج الكارثية المساقة في أعلاه.
منطقة سهل نينوى بالذات، لها تضاريسُها الخاصة، البشرية منها والدينية والمذهبية والجغرافية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية. فهي عراقٌ مصغَّر أكثر من غيرها، وبدرجة تقترب منحال كركوك وكردستان، إن شاء البعض. إلاّ أنّ ما يمّيزها عن غيرها في هذه كلّها، أنّها منطقة احتكاك بين مكوّنين متصارعين أزليًّا، بين العرب بثقافتهم العربية ونزعتهم الاستعلائية على غيرهم والكرد بثقافتهم الكردية وطموحاتهم غير المتوازنة، وما يشكله هذا وذاكَ من اختلاف في الرؤية وفي النظر إلى المستقبل لدى القوميّتين والشعبين المتنازعَين.
إنَّ ما يثير الجدل في نيّة الجانب الكردي المدفونة، أن غالبية مناطق السهل، بعيدة عن ثقافتهم، وهذا واقع حالٍ يُراد تغييره بوسائل متعددة وعبر أدواتٍ منتفعة بالمنطقة. وهذه الرؤية والتحليل حقيقة واقعة عندما ننظر إلى المتحدّثين والمثقفين والكتاب والأدباء والباحثين من أهل السهل، فإنّ غالبية هؤلاء يدينون بثقافة عربية بحتة ولا يجيدون الكردية ولاسيّما المسيحيين منهم، لا من قريبٍ ولا من بعيد، إلاّ القلّة من الإيزيديين والشبك الذين يشيرونبتحدّثهم بلغتهم الخاصة، لكنّ الظروف القاهرة جعلتهم تحت مطرقة الأكراد. وهذا دليلٌ قاطعٌ على سقوط الحجةّ عند مَن يطالب بضمّ السهل ومناطقه المتحدثةوالمتشربة بالثقافة العربية إلى الإقليم.
أمّا التبريرات المساقة بكون الإقليم وقيادتِه وأهلِه أقربَ إلى مواطني السهل في الرؤية والعشرة والحماية والاهتمام، فقد سقطت هي الأخرى، حينما ضحّت بهم قوات البيشمركة وقياداتُهمبعد أن انسحبت منهزمة خلال ساعات من دون سابق إنذار أمام تهديدات عصابات "داعش".
وقد ترتَّبَ على هذا الانسحاب المفاجيءإرباكٌ وخذلانٌ واستياءٌللمؤسسات الدينية وزعاماتها التي كانت تقف في غالبيتها إلى صفّ المتعاطفين من مواطنيهم مع الكردومع ما كانت تسوّقُه دكاكينُ الأحزاب التابعة للأقليات بالمنطقة من وعود وما أظهره أبطالُها الهاربون قبل الرعايا، ممّن يعدّون أنفسَهم في التشكيل الأمامي لأدوات القيادة الكردية ومن العناصر المحلّية المجنَّدة. إنْ هذه، إلاّ علاماتُ عدمِ الانسجام والتخبّط في الرؤية من قبل نفرٍ مخدوعٍ من أبناء السهل ومَن يقف وراءَ استمالاتهم وتحريضاتهم ووعودهم غير الصادقة لأبناء جلداتهم، بدليل ذوبان هذه الأدواتفي سويعات كما الملح في الماء، وشرودهم عن المشهد المأساوي إلى حيث عرين الأسد الذي آواهم معزّزين مكرَّمين دون غيرهم من بسطاء الناس الذين لم يجدوا مأوىيقيهم ولا ماءً يشفي غليلَهم ولا مصرفًا يسدُّ حاجاتهم الإنسانية لغاية الساعة.
على أية حالٍ، هذه حالُ الشعوب المبتلاة بقادة أو بالأحرى بمدّعي قادة ممّن اعتادوا التنافس بالمناكب في أولى الصفوف في المناسبات والدعوات والاستقبالات الرسمية والدينية والاجتماعية والظهور على الفضائيات تبجّحًا واستخفافًا بمن يتحدثون عن آلامهم وهم بعيدون عنهم قلبًا وروحًا.إنَّ جلَّ هؤلاء الذين نبذتهُم شعوبُهم بعد سقوط الموصل في 10 حزيران 2104، وما تلا ذلك من انهيارات وكوارث ونكبات،يُعدّون من خارج صفوف الصفوة المثقفة أو مَن ليسوا من حاملي الشهادات والخبرة أو المشهود لهم بالحكمة والرويّة والاتزان والحرص الوطنيّ قبل الفئويّ والشخصيّ. هؤلاء جمعتْهمحولًهازعاماتٌاستبدادية واستحواذية محليّة تتسمبعقلية انتفاعية ذاتيّةذات عقدة نرجسية ممسوسة بجنون العظمة تدّعي الحرص على تمثيل شعوبها،ولكنها بتصرفاتها غير الحكيمة تكون قد جلبت عليها النقمة وغضب الأرض والسماء معًا. لذا كان اختيارُ هذه الزعامات المحليّةالمنتفعة لأدوات هزيلة منتفعة مثلها وتتسم بصفات عاجزةوغير مؤهلة للقيادة لتكونَ أدواتٍ للتكسّب والتطبيل لأولياء النعم والاستعداد الدائم لفعل أيّ شيء لضمان الكسب الضيّق. وكلُّ هذا وذاك،من باب الحرص الكاذب على مصلحة ناسهم ومناطقهم، بعد استبعاد مَن في جعبتهم ثقافةٌ وحرصٌ وغيرةٌ وعلمٌ ورؤية وطنية شاملة.فهذا الصنف الأخيريصفه المنتفعون من أولياء النعم في المنطقة، بالسائرين عكس التيار. وهم يقصدون به تيارَ الخضوع والخنوع وتقديمَ الولاء الدائم للغريب القادم من خارج الأسوار.
وباختصار، فإنّ جلَّ المجاميع التي تدّعي قيادة شعوبها في منطقة سهل نينوى بالإجماع، لا تمثّل إلى حدّ كبير هذه الشعوب والقرى والقصبات التي اكتوت بأكاذيب الأدعياء والخانعين والمتاجرين بهم وبمستقبلهم وبمصيرهم إلى المجهول! والسبب ببساطة، كونُهم غير حياديّين وغير مستقلّين في الرأي والقرار وتابعين لأولياء النعم من الأسياد ومَن يدفع لهم على حساب الفقراء والمحتاجين والبسطاء من عامة الشعب. فالحالة تشمل المسيحيين والشبك والإيزيديين بالمنطقة على السواء.
إخفاق وشكوكٌ في ضامن الحماية لمناطق الأقلياتبعد سقوط الموصل في 10 حزيران وتوالي انهيار أقضيتها ونواحيها وقراها وبلداتها بيد مسلّحي دولة الخلافة الإسلامية "داعش"، سقطت معها ورقة التوت عمّن كان يدّعي الدفاع عن مجمل المناطق المسمّاة ب "المتنازَع عليها"، والضامن لحمايتها، بعد أن دامَ احتلالُها من الجانب الكرديّ منذ 2003. فمَن كان يمسكُ أراضي منطقة السهل طيلة هذه السنين العجاف بويلاتها ومشاكلها ومنغّصاتها،لم يستطيعوا الدفاع عنها حين اقتضاء الضرورة، بل تمّ تسليمُها بكلّ سهولة من دون مقاومة تُذكر وفي ظروف يشوبُها الكثير من اللغز واللغط والصفقات التي لا تقبل الشكّ، ومن دون إبلاغ الأهالي وإنذارهم باتخاذ ما يلزم من تحوّطات عديدة نظرًا لضخامة الفاجعة وهول مآسيها.
هذه حقيقة لا يمكن تجافيها أو تغافُلُها. فقد باعنا الأكراد بلمح البصر، تمامًا كما تخلّت عنّا الحكومة المركزية وأهملت الجانب الأمنيّ والخدميّ بحجج واهية وضمن صفقة مع حكومة الإقليم منذ السقوط في 2003. إلاّ أنّ هذه الكارثة أدّت إلى اقتلاع شعوبٍ كاملة من مناطق تواجدهم الأصلية وفقدان مالهم وحلالِهم وممتلكاتهم في ساعات وترك مساكنهم والهيام بوجوههم في المجهولواضطرارهم للنزوح قسرًا إلى مناطق غريبة بالآلاف، في ظلّ غياب الرعاية من حُماتِهم التقليديين الذين كانوا تعهّدوهم بالدفاع عنهم.
هذه الواقعة الفاجعة، لا بدّقد غيَّرَت المعادلة إلى واقع جديد سيؤدّي بالتأكيد إلى قرارٍ شجاعٍ يضع النقاط على الحروف، حتى لو تمّ تحرير هذه المناطق بوتائر زمنية، كما المأمول.فالمؤمنُ لا يلدغُ من جحرِ مرتين. فكم بالأحرى إذا تجاوز الثلاث مرّات؟اليوم، ترتفع أصواتٌ للبحث عن حلولٍ لمأساة آلاف البشر المشرَّدين من أبناء الأقليات في منطقة السهل الجريح، هؤلاء الذين طالَهم التهجير والطرد حينَ خُيّروا بين الإسلام أو الجزية أو حدّ السيف أو ترك كلّ شيء وعدّ أموالهم وممتلكاتهم من أملاك الدولة الإسلامية بموجب قانون الغزوات الجاهلية.
ومن ضمن هذه الحلول، مطالبة الهيئة الدولية ومعها الدول ذات القرار والقدرة والتأثير بإنشاء منطقة آمنة تكون بمثابة محميّة لهذه الشعوب المستضعفة والمضطهَدة طيلة حياتِها بسبب غياب ثقافة احترام الآخر ورفض القبول بالمختلف دينيًا وإتنيًا ومذهبيًا وما سواه.حقًا، إذا كانت حكومة المركز ليست لها القدرة لتأمين حياة سكّان السهل وفرض الأمن والاستقرار وتقديم أفضل الخدمات التي يستحقونها، وكذا الفشل الذريع والخذلان الذي سبّبه انسحاب القوات الكردية بالإقليم،
فالأمنية بطلب حماية دولية، تبقى هي الشكل الأوفر والأصلح لأقليات هذا السهل. وهذا حقٌّ مشروع في ضوء المستجدّات والأحداث الصاعقة التي عصفت بالبلاد وأوصلت العباد إلى شرٍّ وكارثة ما بعدها شرّ ولا كارثة، حين تعلّق الأمر بحياة بشر آمنين، وبمصيرٍ شعوبٍ تحوّلت إلى هباء، وبمستقبلٍ غامضٍ لا يبشّر بالخير القادم، مهما كان!
فالدول التي هبّت للنجدة وتقديم المساعدة بأشكالها بعد خروجها من صمتها المطبَق خجلاً، لم يكن تحرُّكها ممكنًا لو لم تشعر بتهديدٍ لمصالحها على أرض الإقليم، تمامًا كما قالها رئيس بلاد الشرّ "أوباما حسين". فحينها فقط تحرّكَ الركب الأمميّ وتنادى لصدّ الهجمة الشرسة للتنظيمات الإرهابية التي كادت تصبح على أبواب مصالحها. كما أن الخجل الخفيف الذي ضربَ ضمائرَها وحرّكَ عقولَ بعض زعمائها لم يكنْ ليحصل لو لمِ توجَّه لها انتقادات وتُجابَه بضغوطٍ من جهات حقوقية وإنسانية ودينية، ولاسيّما تصريح بابا الفاتيكان الذي أجاز مقاومة ومعالجة مكامن الشرّ بالطريقة التي تراها الهيئة الدولية مناسبة لدحر الإرهاب ووأدهٍ من أجل سرعة عودة النازحين والمهجّرين إلى بيوتهم وقراهم لممارسة أعمالهم وشعائرهم وواجباتهم تجاه ربّهم ووطنهم وأهلهم وشعوبهم.
ضماناتٌ دولية رصينة
إن موضوع الحماية الدولية التي طفت على السطح كحلّ أفضل لأهل السهل، ينبغي أن يُعالج بعناية فائقة ،كيلا يكون نسخة تابعة وخاضعة لجهة تتربّص بجغرافية المنطقة من أجل توسيع مداها وحدودها على حساب مآسي غيرهم. فالعرب وضمن أجندتهم بالحلم بتشكيل إقليمهم الخاص على أنقاض المحافظة المتهالكة، وكذا الكرد الطامعون منذ حينٍ بضمّ المنطقة إلى دولتهم المزمعة القادمة لامحال، يتصارع ون اليوم وعلى قدمٍ وساق للاحتفاظ بمناطق السهل، ليسَ حبًّا بهم وبإنسانيتهم وحفظًا لحقوقهم وهوياتهم، بل إنّما للمقوّمات البشرية والإنسانية والدينية المتسامحة والهوية الوطنية الرصينة والاستعداد للتطور العلمي والتراثي والفنّي والاقتصادي والاجتماعيّ وغيرها من الصفات التي يتمتعون بها دون غيرهم. والحق يقال ، لقدكان الأجدر بمَن سعى لحكم العراق بعد زوال حكم الاستبداد في 2003، أن يترفعوا عن أجنداتهم الدينية والمذهبية والطائفية والتركيز عوضَ ذلك على الهوية الوطنية التي وحدها هي الجامع الفعليّ لأبناء الوطن تحت خيمة المواطنية والإعمار والبناء والتطوّر والتنمية المستدامة. لكنّ جلَّ هؤلاء القادمين على ظهور دبابات المحتلّ الأمريكي أوالمدعومين من دول إقليمية ومجاورة حتى الساعة، لم يكونوا يحملون في جعبهم الخاوية غيرَ عنصرِ الانتفاع من الظروف وضمن نطاق الدّين والمذهب والطائفة التي ينتمون إليها. ومن هنا، كان تكتُّلُهم واحتماؤُهم ضمن نطاق الكتل التي التفّوا حولَها تحقيقًا لمصالحهم الفئوية والشخصية الضيّقة. وهذه هي الكارثة التي قصمت ظهر الوطن، ولا يبدو في الحكومة القادمة بصيصُ أملٍ بالخروج من قوقعة هذه الشرنقة سالمين ونافضين غبار الطائفية ومحاصصتها البغيضة التي يتكلّم عنها الكثيرون ولكنّهم متمسكون بها حتّى العظم. التشكيلة الوزارية الجديدة التي على الأبواب، لا تخلُ من نَفَسٍ طائفيٍّ وشرهٍ لحبّ الكراسي والسلطة وماوراء هذه الكراسي من مغانم وامتيازات وفوائد! وسنلمسُ ذلك خلال السويعات القادمة. فهي لن تكون مختلفة كثيرًا عمّا سبقها، كما لن يكون في أياديها أزرارٌ سحرية لانتشال البلد من وهدته.
أمام هذه الحقائق المؤلمة،
لن يكون سهلُ نينوى آمنًا بغير حماية دولية بالكامل على غرار قوة سلام دولية وبضمانات عهدية أكيدة ولأجلٍ غير مسمّى حتى قدوم ذاك اليوم الذي فيه تتحرّر الذهنّية العراقية من كلّ مخلّفات الماضي الدينية والطائفية والقومية والفئوية الضيقة، وصولاً لبناء دولة مدنية متحضّرة يصونُها دستورٌ وطنيٌّ لا يفرّق بين مواطن وآخر وتحصّنُها قوانينُ داعمة للدستور وتعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه. كما المطلوب أن تجمع النسيجَ الاجتماعيّ،ذهنيّةٌمواطنيّة تعرفُ كيفيةَ العيش المشترك وتقدّر أهمية السلم الأهليّ والتكافل والتعايش ضمن النسيج المجتمعيّ العراقيّ الأصيل الذي عهدناه.
وبالمقابل، يجب التفكير
بتكوين قواتٍ مناطقية من جميع مكّونات السهل، متمرّسة ومدرّبة تدريبًا جيدًا، تكونُحاملةً لعقيدة عسكرية وطنية خالصة، يكون ارتباطُها بالجيش الوطنيّ الاتحاديّ حصرًا، ولا تخضعُ لأية كانتونات أو تكتّلات متصارعة ومتجاذبة في الساحة بأيّ شكلٍ من الأشكال. وهذه دعوة ملحة لشباب السهل، كي ينخرطوا في هذا التشكيل ويبدؤوا مشوار التفكير بالتعاون مع الجهات المعنيّة في كيفية حماية مناطقهم مستقبلاً على أساسٍ وطنيّيلحين انصهار كافة التشكيلات القائمة حاليًا مع الجديدة منها في جيش وطنيٍّ محترفٍ لا يدين بالولاء لغير الوطن وشعبهِ وحدوده ومستقبلِه. وحينَها يمكن الاستغناء عن الحماية الدولية عندما يزول شبح الخطر وتكون الذهنيّة القبائلية والعشائرية والمذهبية والطائفية قد زالت وإلى غير رجعة. وهذا أمل الجميع، كي يعود العراق سيّدًا في موقعِه وآمنًا بحدودِه وقويًا بجيشه ومتطورًا بعلمائه ومتفتحًا برجالِه ونسائِه على السواء. فمَن يقع على عاتقه مسكُ الأرض بعد هذه التجربة المرّة، يجب أن تكون قوات نظامية تدعمُها قواتٌ محلية من أبناء جماعات الأقليات أنفسهم، في كلّ القرى والقصبات والبلدات التي يتواجدون فيها، وعدم القبول بتولية غيرهم عليهم بعد الآن.
لا للبدائل المطروحة عن الأرض الأصليةيُشاع هنا وهناك، عن مشروعٍ لبناء مجمّعاتٍ سكنية بديلة لمساكن المهجَّرين والنازحين من منطقة السهل في جزءٍ من كردستان. إن هذا المشروع المشبوه، يساهم من حيث لا يدري المواطن النازح المغلوب على أمرَه، بطريقة أو بأخرى، بقلعِه واستئصالِه من جذوره التاريخية والحضارية والدينية بعيدًا عن أرض آبائه وأجدادِه. ومّن يحاولُ تجميل صورة هذا المشروع، فهو كمَن يسعى معّ المخطّطين له باقتراف خطأ جسيمٍ آخر لا يُغتفّر، بحجة تقديم سكن آمنٍ لهؤلاء الذين طُردوا بفعل فاعلٍ من بيوتهم وقراهم وخسروا تحويشة العمر وأتعاب وشقاء وضنى عمرِ آبائهم وأجداهم، ليأتي الغريب المتربّص ليقطنَ بدلَهم فيها. وبذلك، تُطوى صفحة هذه الشعوب المستباحة، وتزول آثارُهم مع الزمن ومع توالي الأيام والسنين. فمَن يتعوّد السكنى في المجمَّعات المقترَحة في إقليم كردستان، سوف يطيبُ له الاستقرار فيها ولن يفكّر بعدُ في الانتقال منها والعودة إلى ديارِه، خوفًا من إعادة الكرّة بالمأساة التي اختبرها بسبب قدوم تنظيمات "داعش" والخوف من الوقوع في فخاخ مثيلاتها لاحقًا.
إنّي أعتقد، أنّ تشجيعَ مثل هذا المقترَح، ليس من صالح أهل الحق والأرض، لأنّه سيُساهم بشكلٍ أو بآخر على إجراء تغيير ديمغرافيّ في مناطق السهل، وهذا ما يريدُه أعداء الأقلياتالمسيحيةوالإيزيديةوالشبكية خصوصًا، وما يسعى إليه مضطهدوهُم لاجتثاثهممن المنطقة. أمّأ مَن يرى أنّ هذا المشروع، سوف يحدّ من نزيف الهجرة، فهو واهمٌ أيضًا، لأنّ الناس كادتتفقدُ ثقتَها بكلّ مَن كانَ يقف حائلاً بين التخيير بالهجرة أو البقاء صامدًا ماسكًا الأرضَ برغبته وكاملِ رضاه. دعوتي للجهات الدينية والكنسية التي تساند هذا المشروع، عدم الانجرار وراء الوعود التي تُقطع والصورة الجميلة التي تُصوَّر مزدانة بالحياة والرفاهية والترف.
فالإنسانُ العقلانيّ الحرّ لا يرضى بغير أرضِ آبائه وأجداده مستقرًّا في حياته ومماته حيث ترتاح عظامُه بالقرب منهم وتحنّ لهم، ليرقد قريرَ العين.من هنا، فلا شيءَ غير تحرير الأراضي المستباحة يبقى المطلب الأوحد للنازحين من قراهم وبلداتهم والمطرودين من ديارهم. وإننا ندركُ تمامًا، كمْ من الذمم والنفوسستُباع وتُشترى في أروقة الكنائس والمساجد والمعابد في منطقة السهل. كما ندرك تمامًا، حجم التخرّصات الكثيرة والسفاهات المتنوعة التي ستشكّلها أحزابٌ وكتلٌ وتنظيماتٌ وعشائر لوضع العراقيل أمام تحقيق حرّية مناطق السهل وبلداته بعيدًا عن تجاذبات الزعامات والحكومات المتنفذة من جميع الجهات ذات المصلحة بالإبقاء على تبعية المنطقة، كلّ تحت مطرقتها، بسببتعدّدالأديان والإتنيات والمذاهب واختلاف توجهاتها الفكرية والعقائدية والعشائرية وتباين ولائها لأولياء النعم والجهات المنتفعة منها محلّيًا وإقليميًا ودوليًّا.
إنّي أعتقد بإمكانية التفاهم بين الجماعات المختلفة في مناطق السهل، بسببٍ من كون غالبيتِها ذاتَ توجهاتٍ سلمية في نهج حياتها ولا تنزع لأعمال العنف والكراهية والتمييزفي مفردات عقيدتها وإيمانها وتوجهاتها. أمّا تلكَ التي يُشكُّ بنزعتها إلى شيءٍ من النهج الطائفيّ بسببٍ من دعمها إقليميًا ودينيًا وطائفيًا، فيمكن معالجتُه في حينها بالطرق السلمية والحوار كي لا تتقاطع مفرداتُها ومعتقداتُها وشعائرُها وأشكالُ تراثها وتنوّع لغاتها وسائر خصوصياتها مع غيرها في المناطق التي تعيشُ فيها متضامنة ومتكافلة تاريخيًا.
إنَّ القوانين والمعاهدات الدولية تجيز للمجتمع الدوليّ اتخاذ قرارٍ لصالح جماعة أو شعوبٍ مضطهَدة من أجل حمياتها من شرّ أعمال العنف والتمييز التي تستهدفُ كيانَها وهويتَها ووجودَها كشعوبٍ أصيلة. ثمّ إنالدستور العراقيّ يجيزُ تشكيل إدارات ذاتية الحكم، في حالة كون هذا المطمح ذا منفعة للمنطقة وأهلِها بشروطٍ ووقائع لا تتناقض مع الثوابت الوطنية التي لا نرغب التجاوز عليها من أجل رأب الصدع بين مكوّنات النسيج الاجتماعي الذي مزّقته السياسة الطائفية بدعمٍ من قوى خارجية لا يطيبُ لها استقرار العراق وأهلَه والاستفادة من ثرواتِه الغزيرة لصالحهم وليسَ لغيرهم.
خيبةٌ من الأحزابلقد خاب ظنُّ العراقيين بالقائم من الأحزاب الهزيلة على الساحة العراقية التي تغلّفت بجلابيب غير وطنية، ومنها أحزاب المكوّنات الصغيرة، المسيحية منها والإيزيديةوالصابئية والشبكية والتركمانية وغيرها، بسبب من تبعيتها لأحزاب كبيرة ذات نفوذ استقطابيّ. فالمثلّث السنّي- الشيعيّ -الكرديّ ما زالَ محتكرًا للسلطة وغير عابئٍ بحقوق الأقليات الأصيلة ووجودها ضمن المنظومة الوطنية التي لا يعترف بها هذا المثلّث الذي بتصرّفاتِه وأنانيّتِه مزّقَ نسيجَ الوطن وجزّأ أرضَه وسماءه وماءه بحسب هواه ومصالح مكوّناته المتصارعة الثلاث على الجاه والمال والسلطة.وهذا ما دفَع أحزابًا محسوبة على جماعات الأقليات كي تكون صوتًا خانعًا لأحزاب هذا المثلّث وتدافعُ عن برامجها الاستعلائية التي لا تخدم الوطنولا أبناء الأقليات ولا تلبّي طموحاتهم.
إنّه وبسبب ضبابية الرؤية واختلاط الأوراق، برزت مؤخرًا، أصواتٌ ناشزة تنادي بفصل عنصريّ بين أبناء منطقة سهل نينوى بحجة استحالة العيش المشترك بين مواطني هذه الأقليات. إنّ هذه النظرة القاصرة، هي بحدّ ذاتها ما يريدُه الأعداء وما تسعى إليه قوى الشرّ بتجزئة البلاد وفق منظور دينيّ وطائفيّ ومذهبيّ.لذا نرى شيئًا من الاستهجان وعدم وضوح الرؤية لدى نفرٍ مغالٍ ممّن تسوّلُ له نفسُه المطالبة بكيان طائفيّ أو قوميّ منفصلٍ عن غيرِه في السهل، متعذّرًا باستحالة عيش المسيحيّ مع الإيزيدي أو الشبكي أو التركماني أو العربيّ أو الكرديّ أو الكاكائيّ أو الصابئيّ وهكذا مع سائر المكوّنات التي تشكلُها حديقة العراق الكبيرة التي تسعُ الجميع وترحبُ بكلّ وطنيّ يحمل في فكرِه وعقلِه وروحِه منهج المواطنة والاعتدال والتكافل والتعايش المشترك. وهذا الأخير، هو ما ينبغي السعيُلبنائه من جديد ضمن أسس الدولة المدنية التي نسعى جميعًا ونطمح لتشكيلها بعد مرورنا بمآسي العنف والقتل والتهجير. كما أنّ افتقار سياسيّينا وحتى بعضٍ من مرجعيّاتنا الدينية إلى روح المواطنة الصادقة ورفضهم للنزعة الطائفية والمذهبية المتعششة في كياناتهم ونبذهم علنًاللعنف القائم، هي من بين الأسباب التي تحول دون حصول المواطن على استحقاقاته الوطنية كاملة.
نأمل أن تعيد الحكومة الجديدة التي تُشكل خلال الساعات القليلة القادمة، النظر في حسابات العراق القائمة ويكون لها الشجاعة الكافية لرفض كلّ التوجهات الطائفية اللّاوطنية وتعيد صياغة برنامجها الوطنيّ مع المستجدّات على الساحة، كي لا تسنح لأعداء العراق فرصةً للنيل من أرضه وشعبِه ومكتسباتِه بالسير نحو دولة مدنية متحضّرة ديمقراطية. فالعراق ٍ باقٍ، أمّا حكّامُه والمتلاعبون بمصيره، فسيُحاسبُهم التاريخ ويلفضُهم الشعب عندما يعود إلى رشده الوطنيّ.
لويس إقليمس في 8 أيلول 2014