حسابات ابناء مكوننا المسيحي بين الدين والقومية
بولس يونان17 تشرين الثاني 2014
مصطلحان لعبا ولا زالا يلعبان الدور الاساسي في حياة مجتمعنا الشرقي, ولعدم وضوح تعريف لكل منهما او معرفة موقع كل منهما في حياة انساننا نجد انه يترجح بين هذا وذاك ويميل الى هذا وينبذ ذاك. وبين هاتين النقلتين لم يستطع ابناء مكوننا المسيحي ان يضبطوا توقيت النقلة ووقت الرجحان وفترة الثبات في هذه او تلك.
نبذة تاريخيةان الاشوريين والكلدانيين القدماء عند تأسيسهما امبراطوريتيهما لم يؤسسانها على اساس دولة مؤسسات وانما دولة عسكر ودولة قوة وسلطة وبطش, تتكون من شريحتين من الناس الشريحة الحاكمة او السادة اصحاب الجنس النقي وهم القلة وشريحة العبيد وهم خدم المعبد والعاملين في الحرفيات وهم الكثرة!. فنلاحظ ان الاشوريين في غزواتهم وتوغلاتهم في الشرق والغرب لم يكن الهدف من تلك الغزوات تثبيت الحكم وذلك بفرض نظام مؤسساتي على المناطق المحتلة بقدر ما كان اخضاع او معاقبة شعوب الارض التي كانوا يجتاحونها, فكل ما كانوا يفعلونه هو تدمير مدن وابادة مجتمعات وقتل حكامها وتنصيب حكام جدد من نفس ابناء الشعوب المهزومة يتعهدون الولاء والخضوع لحاكم الامبراطورية.
ان العظمة خلال تسلطهم كانت للمدن وليست لمجمل الامبراطورية, فعظمة الامبراطورية كانت بعظمة وبهاء المدينة التي كان يحكمها الملك وتزول عظمتها ويخفت بريقها بزوال حاكمها سواء بهجوم خارجي او تمرد داخلي. وبالتالي نجد ان تخطيط المدن الحاكمة كان بترتيب عسكراتي. فالملاحظ عند انشاء مدينة نينوى انها احيطت بمحميات او قلاع عسكرية على شكل ثكنات تمتد على شكل نصف دائرة من جهتها الشمالية الشرقية والتي لازالت ظاهرة على شكل تلال ترابية غير مكتشفة, في حين كان يشكل نهر دجلة الحد الاخر من جهتها الجنوبية الغربية. هذه المدن لم تكن مدنية بقدر ما كانت عسكرية لحماية الطغمة الحاكمة التي كانت تتحصن داخل مدينة محاطة بسور شاهق وقوي في حين كانت طبقة العبيد او اصحاب الحرف تتواجد حول المحيط الخارجي للسور.
ان قسوة نظام الحكم في كل من الامبراطوريتين الكلدانية والاشورية كانت السبب في زوالهما ومحوهما من الوجود بعد سقوط بابل ونينوى واعتقد انه كان للعبيد دور كبير في زوال هاتين الامبراطوريتين العسكريتين. لم ينجو احد من الاشوريين بعد سقوط نينوى ومن بعدها لم يسكن احد مدنهم وتركت تلك القصور العظيمة بما تحويه من منحوتات وكنوز تلعب فيها الحيوانات والطيور الى ان لعبت الطبيعة دورها في الحفاظ عليها وذلك باكسائها بالتراب نتيجة الغبار الذي حملته الرياح والعواصف خلال كل تلك الحقبة الطويلة من الزمن.
مجيء المسيحية وتبنيها في بلاد الرافديننظرا لان اغلبية شعوب المنطقة كانت تتكون من فئة العبيد والحرفيين والمسحوقين وهي الفئة المتبقية بعد زوال الكلدانيين والاشوريين ولسبب ما فانهم لم يسكنوا قصور او يشغلوا مدن اسيادهم واعتقد ان سبب ذلك يعود الى الاعتقاد الديني حيث كانوا يعتقدون ان الالهة تسكن هذه القصور وانها سوف تعاقب اي متجاوز.
ان المسيحية انتشرت بسرعة بين هؤلاء لِما اتت به من قيم وافكار جديدة ترفع من شأنهم. فطروحات مثل " ومن اراد ان يكون فيكم اولا فليكن لكم عبدا " و" ليس يهودي ولا يوناني. ليس عبد ولا حر. ليس ذكر وانثى لانكم جميعا واحد في المسيح يسوع. " وغيرها من اسس العقيدة المسيحية دعت الى الغاء الحالة الدونية التي كانوا يعيشونها فتقبلوا واحتضنوا هذه الديانة بسهولة ويسر.
كما ان الرواد في الكنيسة السريانية لم يكن في عقيدتهم تأسيس الممالك الارضية فانهم تقبلوا اي غاز جديد ورضخوا لحكمه بالرغم من الاضطهادات التي تعرضوا لها لان مملكتهم ليست من هذا العالم ولان مملكة المسيح ليست من هذا العالم فانهم حتى تقبلوا او لم يبالوا بغزوات المسلمين لانهم لم يؤسسوا او يسعوا الى تأسيس اي مملكة الى ان اتى الرومان والاغريق بممالكهم والتحفوا الدين الجديد في عهد الامبراطور قستنطين وامه هيلانه.
ثم كانت الانقسامات العديدة التي عصفت بالكنسية بسبب التفسيرات المختلفة للمدارس الكبيرة في كل من انطاكية والاسكندرية والقستنطينية وغيرها. ان الانقسام لم يكن انسلاخ من الجسم الاثوري او الاشوري كما يدعي البعض ولكن انقسام مدارس شملت اقوام عدة وبحدود امبراطوريات كبيرة مثل الامبراطورية الرومانية والامبراطورية الفارسية وبعضها كان النتيجة المباشرة لحالة الاقتتال بين هاتين الامبراطوريتين وان حادينا جانب الدقة فان الانسلاخ او الانشقاق كان من جسم الكنيسة السريانية بالتحديد.
اذن استطاع اباؤنا الاولين الحفاظ على مسيرة الكنيسة ليس بسبب رأفة الغزاة ولكن بسبب حساباتهم الصائبة. لم يكن اي من الغزاة رؤوفا وانما كانت قسوتهم لا حدود لها سواء كان اولئك الغزاة مسلمين او فرس او رومانيين او غيرهم. اذن ان تمسك اباؤنا بالدين هو الذي انقذهم من الهلاك والابادة رغم خضوعهم لسلطة امبراطورية او سلطنة اسلامية دستورها الشريعة. ان الحالة الذمية التي كان يخضع لها آباؤنا الاولين لم تكن تعنيهم بشيء على الاقل في بداياتها لان المرتجى لم يكن جاه او سلطات ارضية ولكن ايمان راسخ بان كل شيء يتعرضون له هو من تدبير الله وان الخضوع لنتائج هذا التدبير سيؤهلهم حقا للفوز بملكوت السماء هذا من جهة كما ان المسلمين المتمثلين بالسلطنة العثمانية كان مبتغاهم هو تطبيق ما تتطلبه الشريعة فيما يتعلق بالحالة الذمية لاهل الكتاب وتطبيق ما هو مكلفين به من عند ربهم لم يقصروا فيه ولم يهملوا اية فقرة من مواده.
سقوط العثمانية وتقسيم التركةبعد الحرب العالمية الاولى ونتيجة لخسارة دول المحور الحرب فان الحلفاء عمدوا الى استقطاع الولايات الشرقية الغير تركية وتقسيمها تحت سلطة الانتداب الفرنسي والانكليزي وعملت هاتين الدولتين على تأسيس ممالك بحكومات ذات توجه وطني. فتأسست عدة احزاب علمانية ذات اتجاهات مختلفة من اقصى اليمين الى اقصى اليسار. كما ان القوميين الاتراك بقيادة كمال اتاتورك جردوا السلطان من كل صلاحياته الزمنية ثم بعد ذلك أَلغَوا السلطنة نهائيا بعد نفي آخر سلطان عثماني عبد المجيد الثاني.
ان ابناء المكون المسيحي من السريان والكلدان والاشوريين لم يستفيدوا من الاجواء القومية التي ولدتها نتائج الحرب العالمية الاولى ولم يظهر اي توجه قومي حقيقي في اي من المكونات الثلاثة رغم ظهور بعض الحركات الاعتباطية والغير مدروسة والتي ادت الى نتائج كارثية في بعضها دفع ثمنها الابرياء من المسيحيين من الرجال والنساء والاطفال.
استمرت القيادة بيد الزعماء الدينيين, كما ان حالة العداء والمقاطعة بينهم استمرت منذ الانقسامات التي فرقتهم والتي خلقت هذا الجو العدائي بينهم. ان حالة العداء هذه لا زالت قائمة الى يومنا هذا رغم انها قد تضعضعت في الفترة الاخيرة ولو في درجاتها الدنيا وذلك نتيجة انتقال المسيحيين من الارياف الى المدن الكبيرة او هجرتهم الى الخارج وهذه ادت الى حتمية الاختلاط بسبب اجواء العمل والوظيفة او الحاجة الى تكتل وكان من نتائج هذا الاحتكاك هو قبول احدهما الاخر كما هو والى القبول ببعض الزيجات المختلطة ولو باستحياء بعد ان كانت حتى وقت قريب تابو ومن المحرمات.
في الستينيات من القرن الماضي احس بعض القوميين من المكون المسيحي بهذا الخطأ الفادح وعملوا على تأسيس احزاب قومية خارج هيمنة الكنيسة ولكن لم يحسنوا التوقيت لان الوقت ليس بالمناسب, لا بل قد تأخروا, فالمناخ قد تغير وفرض الواقع السياسي قيودا على عمل الاحزاب.
بداية ونهايةان فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي افرزت انظمة شمولية ذات توجه قومي في معظم الدول العربية وكانت للهزيمة العربية امام التقدم الاسرائيلي في حرب الايام الستة في حزيران 1967 م تأثيرا كبيرا لنجاح هذه الانقلابات فتم تبطيل البرلمانات وحُذِر عمل الاحزاب وقُمعت بضراوة وظهر شكل حكم الحزب الاوحد والقائد الضرورة.
ان انحسار عمل الاحزاب القومية والدينية لدى الاخرين قابله صعود في عدد الاحزاب القومية للمكون المسيحي وهذه وجدت صعوبة كبيرة في عملها او ايجاد مؤيدين لطروحاتها نظرا لصعوبة العمل القومي وسط ذلك المناخ وكذلك لقسوة الانظمة الحاكمة.
ان بداية تأسيس احزاب المكون المسيحي قابله بداية نهاية الاحزاب القومية سواء الحاكمة أو الاخرى وهذه الفترة شهدت ايضا بداية صعود الاحزاب الدينية الاسلامية وعملها سواء بالسر او العلن وعملت الى اسقاط الانظمة القومية والعمل على استرجاع امجاد دولة الخلافة. ان نجاح الثورة الاسلامية في ايران ساعد كثيرا على نهوض هذه الحركات بعد سبات طويل, كما عملت انظمة الخليج بما تملكه من امكانيات مادية هائلة على تقوية الاسلام السياسي السني في مواجهة الجمهورية الاسلامية الشيعية في ايران فظهرت القاعدة وقَوِيَ تنظيم الاخوان المسلمين وغيرهم.
حسابات خاطئةان اسقاط اي نظام كانت نتيجته تسلم الاحزاب الدينية الحكم فبعد الاجتياح الامريكي للعراق واسقاط نظام البعث فان التكتل الذي شكله المحتل الامريكي كان في مجمله تكتل احزاب دينية وهو المدخل الذي سمح للسيد يونادم كنا ان يدخل ذلك التكتل تحت يافطة المكون المسيحي رغم توجهه القومي, فكان وجوده في مجلس الحكم المؤقت على اساس تمثيله للمسيحيين وليس على اساس قيادته للحركة الديمقراطية الاشورية ذات الاهداف القومية.
كما ان ما سمي بالربيع العربي الذي اطاح ولا وال يعمل على الاطاحة بالانظمة العلمانية القومية لم يكن سوى خريف عربي ومهرجان كبير لربيع اسلامي حيث كان البديل الجاهز هي الاحزاب الاسلامية.
امام هذا الشحن الديني الطاغي لم يبق امام احزاب المكون المسيحي سوى التِحاف العباءة الدينية وخاصة بعد ان جرى توزيع المقاعد النيابية على اساس طائفي. ان تخصيص مقاعد للكوتا المسيحية ساعد الاحزاب القومية الاشورية من الحصول على اغلبية المقاعد الخمسة بدون منافس معتبر, الى ان ظهر على الساحة المجلس الشعبي لمنافس فعال له.
لولا التفاف الاحزاب القومية والتحافها الدين لكانت في حبر كان في اي تشكيل حكومي عراقي لان حساباتهم لم تكن لتستطيع ان تؤدي بهم لتحقيق اهدافهم القومية في الوسط الديني الطاغي المتواجدين فيه.
لماذا نجحت الاحزاب الاشورية وفشلت الاحزاب الكلدانيةان نجاح الاحزاب الاشورية وخاصة الحركة الديمقراطية الاشورية في كل الانتخابات النيابية العراقية يعود لعدة اسباب داخلية واخرى محيطية واهمها:
اولا تَبَني الكنيسة النسطورية القومية الاشورية كهوية لها وابدال اسمها الى كنيسة المشرق الاشورية بدل كنيسة المشرق النسطورية بعد تسلم غبطة البطريرك مار دنخا الرابع الكرسي البطريركي, ونظرا للتوجهات القومية لغبطته فانه تبنى مفهوم القومية الاشورية الشاملة اي القومية الام واعتبار البقية طوائف دينية اشورية وهذا الطرح اخذ يروج له معظم الاعلام الاشوري.
ثانيا اقتناع بعض الاشخاص من غير الاشوريين بالعمل ضمن بعض الاحزاب الاشورية مقابل اغراءات منها تسلم مناصب قيادية ونظرا لعدم وجود احزاب من مكوناتهم فانهم رضوا بالعمل ضمن تلك الاحزاب ومن المعروف عن هؤلاء انهم بصورة عامة لا يستمرون في العمل مع تلك الاحزاب.
ثالثا خوف ابناء المكونات الاخرى من الدخول في العمل الحزبي وكذلك عدم بلورة مفهوم شامل للقومية والمبادرات الفردية في تأسيس احزاب قومية والتي لم تخضع لاجتماعات تمهيدية وموسعة لبلورة او توحيد الافكار والتوجهات المختلفة للطليعة من ابناء مكونها.
رابعا عدم تبني الكنيسة الكلدانية وكذلك السريانية للاحزاب القومية العاملة تحت يافطتها او اسمها فمقابل تبني الكنيسة النسطورية, القومية الاشورية, نلاحظ ضعف وفي بعض الاحيان تخاذل واستنكاف من تبني هكذا طروحات من الكنيستين الاخرييتين وخاصة الكنيسة الكلدانية. ان هذا الانحدار في توجه الكنيسة الكلدانية ظهر بعد تولي غبطة البطريرك مار روفائيل الاول بيداويد السدة البطريركية وبعض تصريحاته التي اعتبرها بعض الاشوريين اعتراف رأس الكنيسة الكلدانية بقوميته الاشورية وخاصة عندما اعلن عائدية جده للمذهب النسطوري.
كما ان الركود وحتى الجمود في عمل خلفه البطريرك عمانوئيل دلي وكبر سنه ومرضه المزمن عمل على تفاقم وضع الكلدان وتراجع نفوذهم رغم اغلبيتهم العددية. شُبِهت الكنيسة الكلدانية في عهده بالسلطنة العثمانية ووصفت بالرجل المريض تشبيها بالدولة العثمانية في فترتها الاخيرة.
لم يكن وضع غبطة البطريرك مار لويس ساكو بافضل من سابقيه حتى هذه اللحظة, فبعد ايام من تنصيبه طرح مبادرته التاريخية معلنا استعداده للتنازل عن السدة البطريركية اذا ادى ذلك الى توحيد كنيسة المشرق والمقصود بذلك كانت كنيسة المشرق الاشورية, هذه المبادرة لم تلق اي رد من الجانب الاخر, بل ان بعض القوميين اعتبروها انتصارا وتأكيدا لطرحهم القومي.
استمرت التنازلات من قبل رأس الكنيسة الكلدانية والتي كانت آخرها الاستقبال المتواضع الذي استقبل به من قبل غبطة مار دنخا الرابع له خلال زيارته له في مقره في الولايات المتحدة الامريكية والذي اعتبر مهينا من قبل الكثيرين. امام كل هذه التنازلات وهذه المبادرات لم تتحرك الكنيسة الاشورية قيد انملة لاختصار الطريق. كما انه من المعروف عن غبطة مار لويس ساكو عدم ميله للطقس الكلداني وتفضيله العربية على الكلدانية مما يشكل عامل ضعف آخر في جسم القومية الكلدانية.
ظهرت بعض البوادر القومية في توجه بعض رؤساء الكنيسة الكلدانية وخاصة مبادرات سيادة المطران مار سرهد جمو وتبنيه مؤتمرات النهضة الكلدانية ولكن المبادرة لم تباركها او تتبناها الكنيسة الكلدانية او رئاستها على وجه الخصوص فظلت تعمل على اساس اقليمي وفي بعض الاحيان اعتبرت تمرد على الرئاسة الكنسية مما خلق الاجواء للعداء وحتى القطيعة وتبادل التهم .
ان الساحة في الوقت الحالي هي للاحزاب الدينية فاذا اراد ابناء المكون المسيحي الاستمرار فعليهم ان يَنْظَموا تحت لافتة الدين وقبول الشروط الدينية التي تحدد تواجدهم.