عودة كرسيّ كنيسة المشرق الاشورية من الاغتراب الى الوطن ، الحكمة والمبررات «
في: 08:23 30/03/2015 »
عودة كرسيّ كنيسة المشرق الاشورية
من الاغتراب الى الوطن، الحكمة والمبررات
د . عبدالله مرقس رابي
باحث أكاديمي
في البدء ، أتقدم بأحر التعازي للأخوة أبناء كنيسة المشرق الاشورية من الاكليروس والعلمانيين والى ذويه ومحبيه جميعا بمناسبة أنتقال قداسة البطريرك مار دنخا الرابع الى الملكوت السماوي لينعم بالراحة الابدية فيه.
مقدمة
لا تقتصر دراسات وأبحاث الباحثُ الاجتماعي المُختارة على جماعة بشرية دون غيرها ،أو مؤسسة دون أخرى ،أو ظاهرة في مجتمع ما دون المجتمعات الاخرى .فخدمة الباحث وأعماله تُقدم للجميع بدون أستثناء. أقصد مما ذكرته ، قد يتساءل القارىء الكريم وما علاقتك بالكنيسة المشرقية الاشورية وانت من أبناء الكنيسة الكلدانية ؟ فهي أجابتي لسؤال متوقع منه . فاذا كنت أبحث في ظواهر مختلفة ولمجتمعات متباية ،فكيف لا أبحث وأهتم في دراسة الظواهر التي أحس بأنها بحاجة الى الدراسة للكنيسة الاشورية التي هي أحدى الكنائس العريقة للشعب الذي أنتمي اليه وهو الشعب الرافديني الذي يربطنا جميعا من الكلدانيين والاشوريين والسريان في جذور عرقية أثنية واحدة.فمن هذا المنطلق شعرت بأهمية الموضوع وطرحه للجهات المسؤولة لعله قد تتحقق فائدة مرجوة منه .
ولما كانت المؤسسة الدينية هي أحدى مكونات البناء الاجتماعي للمجتمع فهي تعد نوعا من المؤسسات الاجتماعية التي يتناول الباحث الاجتماعي دراستها وتحليلها .وقد أشارت الدراسات في علم النفس الاجتماعي المهتمة بظاهرة القيادة الى أهميتها في التأثير على الانشطة والفعاليات القائمة في الجماعة ،فهي ركن أساسي من العملية التفاعلية في مجموعة بشرية أو المؤسسة .وذلك لا يمكن الفصل بين القيادة والمجموعة ،فهناك ارتباط وثيق بينهما لكي يؤدي كل منهما دوره لتحقيق الاهداف .
مفهوم القيادة
القيادة بمفهومها العام هي القدرة في التاثير على المجموعة لتوجه وتحفز طاقاتهم للعمل في سبيل تحقيق الاهداف التي تسعى اليها المؤسسة ،أن مفهوم القيادة واحدٌ ولكن أسلوبها قد يختلف من مؤسسة الى اخرى بحسب طبيعتها ورسالتها ،كأن تكون قيادة عسكرية أو دينية أو تعليمية أو اقتصادية أو سياسية ... الخ ولعل أبرز من يكون في مجموعة القيادة هو القائد ، فلابد أن يتميز بالقابلية الشخصية على ،الاثارة ، التحفيز للاخرين ، التمييز ، القدرة على المواكبة للمستجدات ، والقابلية على التكيف للظروف الانية ،لكي يستغل هذه القابليات في التأثير على الافراد .
ولابد الاشارة هنا الى الفرق بين مفهوم " الرئيس " الذي يشغل المركز ألاعلى في المؤسسة ويديرها منطلقا من القوانين الموضوعة التي تنظم العلاقات فيها بين الافراد لتحقيق الاهداف ،بينما القائد هو المؤثر في الافراد والمؤسسة عموما بقابلياته الشخصية المذكورة اعلاه ،بحيث يجمع بين التفاعل الرسمي وغير الرسمي مع الافراد .وعليه قد يكون الرئيس قائدا أو قد لا يكون ،فهو فقط رئيس يعتمد على القوانين في تنظيم علاقاته . وأما اذا توفرت فيه صفات القائد والتمتع بالسلطة، فيجمع بين الاثنين ،وذلك سيكون الافضل للمؤسسة لتحقيق أهدافها ،فمفهوم القائد أشمل وأوسع من الرئيس .
القيادة في المؤسسة الدينية
كما أشرت اعلاه أن القيادة واحدة ولكن تتباين في أسلوبها بحسب المؤسسة . فالمؤسسة الدينية تختلف في كينونتها وبناؤها الهرمي وطبيعة القوانين التي تنظم العلاقة بين الافراد .وهي تختلف أيضا من حبث طبيعة فلسفتها والاهداف التي ترمي أليها .ولكن تظل بحسب الدراسات ، العلاقة القائمة بين القائد والافراد وما يتميز به من صفات شخصية كارزماتية هي أحدى الركائز الاساسية لتحقيق المؤسسة لاهدافها .
اذا تمتع القائد في المؤسسات الاخرى بالقدرة التأثيرية في الافراد ،ستكون هذه القدرة في التأثير للرئيس الديني مضاعفة وأكثر وضوحا ، وذلك بسبب القدسية التي يضفيها المؤمنون لرجل الدين والاحترام الذي يناله منهم ، لان المؤسسة الدينية تنظمها قوانين وتعليمات مستوحات من الكتاب المقدس التي هو مقدس عند المؤمنين جميعا .وقد تبرز جليا هذه الظاهرة في مجتمعنا الشرقي أكثر من المجتمعات البشرية الاخرى وبالاحرى لدى مؤمني الكنيسة المشرقية بكافة فروعها.
فالبطريرك الذي هو رأس الكنيسة الرسولية ،يتمتع بمكانة مقدسة عند الاكليروس والمؤمنين،وبالاضافة الى السلطة التي يتمتع بها بحسب القوانين الكنسية ،لابد ان يمتلك المؤهلات القيادية لكي يجمع بين الرئاسة والقيادة في شخصيته ،لكي يستغلها في تحقيق الاهداف .
بالاضافة الى ما يتمتع به البطريرك من سمات شخصية وشرعية قانونية ، هناك العوامل الموضوعية الاساسية التي لا تقل شأنا عن غيرها لها الاثر الكبير في تحقيق آمال وتطلعات المؤمنين ،ومنها الحالة السياسية السائدة ، والاقتصادية ، والمستوى الثقافي للمؤمنين ،ومكان الاقامة - موضوع المقال - الذي يضطلع دورا أساسيا في توفير الفرصة للبطريرك للتوفيق والاحاطة بكل الامكانات والظروف الموضوعية المحيطة بالمؤسسة الدينية والمؤمنين .فعلى سبيل المثال كلما كان قريبا فيزيقيا من صناع القرار السياسي ، ستكون الفرصة مؤاتية للتفاعل والتعاطي مع ما يخص أتباع المؤسسة الدينية.
ولما كانت كل المزايا الشخصية المذكورة في سياق حديثي عن القائد والرئيس الديني متوفرة عند قداسة مثلث الرحمات البطريرك مار دنخا ،أنما كانت تتكامل بكل أبعادها لو تحقق دور مكان ألاقامة الذي لم يكن ملائما لكي يكون دور البطريرك أكثر فعالا ومثمرا لتحقيق ما يرمي اليه أتباع الكنيسة المشرقية الاشورية . فالكرسي البطريركي للكنيسة المشرقية الاشورية المفترض أن يكون في عقر دار الاشوريين ،أنما لظروف سياسية وتآمرية وأمنية ومصلحية لصناع القرار جعلت بأن يكون الكرسي البطريركي في الاغتراب منذ الماساة التي تعرض لها الاخوة الاشوريين عام 1933 المعروفة بمذبحة " سميل " التي أرتكبتها الحكومة العراقية آنذاك لسبب المطالبة بالحقوق القومية والوطنية . وعلى أثرها نُفي البطريرك المرحوم مار أيشاي شمعون مع عائلته الى قبرص وثم انكلترا ،وبعدها الى الولايات المتحدة الامريكية ،وأخيرا أستقر مركز البطريركية في مدينة شيكاغو لغاية اليوم .
عدم استقرار الكرسي البطريركي تاريخيا
من متابعة تاريخية لما كُتب عن أحوال الكنيسة المشرقية منذ نشأتها على يد الرسل مار توما ومار أدي ومار ماري في القرن الاول الميلادي وتنظمت تدريجيا ،يتبين التنقل المستمر للكرسي البطريركي من مدينة الى أخرى أو من دير الى آخر ،بسبب الاضطهادات والمذابح والمظالم التي تعرض لها المسيحيون و الكنيسة من قبل الحكام أو أتباع الاديان الاخرى كالمجوسية والاسلام في بعض الاحيان،مما أضطر نزوحهم من مكان الى آخر بحثا عن الامان والاستقرار والحفاظ على الكنيسة المشرقية العريقة في أصولها التبشيرية .وكثيرا كان الرأس الاعلى للكنيسة هو المستهدف ، فبدى واضحا التغير المكاني لاقامته سوى في عهد الوحدة في كنيسة المشرق أو بعد الانشقاق المؤلم. يتغير بين فترة وأخرى ولكن ضمن حدود بلاد النهرين شمالا وجنوبا ،باستثناء الحركة الاخيرة لعام 1933 ،فكان أستبعادا ونفيا للبطريرك مار أيشاي شمعون وعائلته الى جزيرة قبرص وثم الى انكلترى وبعدها الى الولايات المتحدة الامريكية بقرار سياسي الى خارج الموطن الاصلي ، أي لم يكن المكان المُختار بارادته .
منذ بدايةْ المسيحية في الانتشار ببلاد النهرين وانتظامها تدريجيا ،تاسس الكرسي البطريركي في مدينة( قطيسفون ) المدائن الواقعة حاليا شرق بغداد. وثم نُقل في عهد ( حنانيشوع ) سنة 778 الى بغداد .وبعدها انتقل حوالي 19 مرة بين المدن والقرى والاديرة الى أن أستقر كرسي الكنيسة المشرقية الاشورية في مدينة شيكاغو الامريكية ولا يزال ،وأما الكرسي البطريركي للكنيسة الكلدانية فاستقر في بغداد منذ عهد البطريرك يوسف السابع غنيمة 1947 – 1958 ، ولغاية اليوم، اضافة الى كرسي الكنيسة المشرقية القديمة هو الاخر في بغداد.
والسؤال المطروح للسيهنودس الكنيسة المشرقية الاشورية
يتبادر للاذهان ويراودني السؤال : هل يعود الكرسي البطريركي لكنيسة المشرق الاشورية من الاغتراب الى الوطن بعد رحيل قداسة البطريرك مار دنخا ؟
وهو سؤال يتبادر كما أعتقد الى أذهان الكثيرين ، وذلك لوجود نداءات وتنويهات لضرورة وجود الكرسي البطريركي في الوطن في عهده من قبل العديد من المهتمين والحرصين على تكامل دور الكنيسة مع المؤسسات الاخرى في خدمة الشعب. و بالرغم من أن قداسته أحدث تغييرا جذريا في أدارة الكنيسة بالغائه النظام الوراثي في الكنيسة المشرقية الذي طال أكثر من 500 سنة منذ تسنمه السدة البطريكية في عام 1976، وتفريقه بين السلطة الروحية الدينية والدنيوية السياسية لراس الكنيسة بعد أن كان أسلافه من البطاركة يجمعون بين السلطتين لادارة شؤون الشعب. فأعتبر دور رجل الدين مقتصرا على الارشاد والتوجيه وأبداء الرأي في الشؤون السياسية ، وكان من المعتزين في القومية الاشورية كأنسان ينتمي اليها .
أنما الامر الذي يمكن من وجهة نظري أعتباره دون الطموح عند قداسته هو أبقائه للكرسي البطريركي في الاغتراب وعدم المحاولة لنقله الى الوطن ،وبالاخص بعد زوال أسباب النفي ، وأخص بالذكر في هذه السنين المتأخرة التي ما أحوجها ليكون رأس الكنيسة في الوطن مع من تشبثوا للبقاء فيه بالرغم من كل الاضطهادات البشعة والوسائل المستخدمة لتهجيرهم.
وأن كانت الظروف والفرصة غير مواتية لقداسة البطريرك الراحل مار دنخا لحالته الصحية ،أو الظروف الموضوعية التي قد رآها من منظوره الشخصي في حينه لكي يُبقي بكرسي البطريركية في الاغتراب. ألا أنه أرى أهمية أعادة النظر بالموضوع من البطريك المنتخب لاحقا . وأنطلاقا من المبررات الاتية وحرصا للمصلحة العليا الوطنية والقومية والتاريخية لشعبنا بمختلف مكوناته الاثنية ،أرى من الضرورة القصوى أن يتخذ السادة الاساقفة الاجلاء في السيهنودس القادم المرتقب لاختيار البطريرك الجديد لكنيسة المشرق الاشورية قرارا كنسيا تاريخيا وشجاعا وجريئاً لنقل الكرسي البطريركي من الاغتراب الى الوطن .
المبررات
في ضوء ما قدمته من تحليل في أهمية العلاقة بين القيادة في المؤسسة ومنها الدينية وبين الاعضاء سأتناول المبررات الاتية.
1 – وفقا لمبدأ أهمية القيادة في المؤسسة الكنسية وكما وضحت في مقدمة المقال ، أرى أن تكامل هذه الاهمية تزداد وتترسخ كلما كان القائد بالقرب من أعضاء المؤسسة ، ،هؤلاء الذين يتمسكون بأرضهم ووطنهم ولا يرغبون التخلي عنه بالرغم من المآسي والمحن التي يتعرضون اليها في العقود الاخيرة .
2 – لدعم التوجهات السياسية لابناء كنيسة المشرق الاشورية التي تؤكد عليها ،المتمثلة في ، الارتباط بالارض الام والتاريخ واللغة والتراث ، لابد من أن يكون رأس الكنيسة بتماس معهم نظرا لاهمية القيادة كما أشرت اعلاه ،لتشجيعهم وترسيخ مفاهيم الاستقرار والتشبث في الارض .
3 – لكون تسمية الكنيسة مرتبط جغرافيا بها " كنيسة مشرقية " فلا بد من ترجمة هذا الارتباط الجغرافي الاصيل الذي لايتنازل عنه المؤمنون على أرض الواقع ،وهذا يتحقق بوجود رئاسة الكنيسة في المشرق وعلى جغرافية الام .
4 - ولما كان مصير من تبقّى في الوطن من أتباع الكنيسة المشرقية بفروعها مرتبط بصناع القرار السياسي في الوطن ، فلا بد أن تكون رئاسة الكنيسة في أحتكاك مباشر معهم ، فاللقاء الوجداني سايكولوجيا لهه تأثيرا أيجابيا كبيرا في تغيير المواقف ، ومن جهة أخرى فأن وجود بطريرك كنيسة المشرق الاشورية بالقرب ومصطف مع البطاركة الاخرين سيكون له دور مهم لتقوية وبلورة الموقف المسيحي في المنطقة.
5 – طالما أن النظام السياسي الحالي في الوطن الام يتبنى الفلسفة الدينية وينطلق من المفاهيم الدينية في أدارة البلد ،فأذن وجود البطريرك لمساندة الاحزاب السياسية لشعبنا أمر له أهميته لتحقيق الاهداف.
6 - يتطلب تفعيل محاولات ونداءات غبطة البطريرك مار لويس الاول روفائيل بطريرك الكنيسة الكلدانية التي أطلقها منذ ترؤسه السدة البطريركية للوحدة الكنسية المشرقية وجود بطريرك كنيسة المشرق الاشورية بالقرب منه أنطلاقا من مبدأ الاحتكاك المباشر يجني ويحقق الاهداف المتوخاة .
7 - وجود البطريرك في البلد الام سيلعب دورا مهما واساسيا للحفاظ على الوجود القومي والديني للأخوة الاشوريين في أرض الاجداد .
8 – ستكون عملية نقل الكرسي البطريركي من الاغتراب الى الوطن خطوة تاريخية ، ستترك أثرا أيجابيا كبيرا في نفوس الاجيال اللاحقة .
9 – ولماذا تبقى كنيسة المشرق الاشورية الوحيدة التي تُدار من الاغتراب دون غيرها من الكنائس الشرقية التي تتمسك وتنطلق من أوطانها ؟ فهل ستلحق الكنائس الشرقية الاخرى في الوطن لتصطف معها وتحقق مكانتها ووجودها وكينونتها ككنيسة مشرقية عريقة وأصيلة في بلاد النهرين .
تمنياتي بالتوفيق في أختيار البطريرك الجديد لكنيسة المشرق الاشورية ليساند في تحقيق آمال وطموحات الجميع .
كما أتمنى أن لا تعد دعوتي هذه تدخلا بشؤون الاخرين بقدر ما هي طرح لراي في ظاهرة ترتبط بوجود شعبنا بكل مكوناته الاثنية لتسانده في محنته المعاصرة.