مع هواجس الناس عن الهجرة والتنقلات الاكليروسانية «
في: 10.03.2016 في 06:45 »
بقلم نويل فرمان السناطي-------------------------
هذه مكاشفة مع الذات، ومع ما يستشف من نبض أبناء الكنيسة داخل "الوطن" وفي بلدان الانتظار، ومداولات جانبية مع تساؤلات البعض، فيها من يتساءل باستياء وآخر برغبة الفهم، والفرق شاسع بين الاثنين والتأثير على أحدهما دون الاخر: الاول اذا اعطيته الحجة سكت، بدون إبداء الرضا، والآخر إذ يفهم تنطلق أساريره ارتياحا ويجيب بفرح؛ وتأتي كتابة المقال، في أجواء من الدالة الأخوية والبنوية مع البيت البطريركي. واذا جاء المقال بهذا النحو المعلن، فلأن الكثيرين قد يكونون معنيين بالأمر، دونما أن يكون الغرض، الإشارة التشخيصية إلى هذا العنوان أو ذاك من رموزنا الكنسية الموقرة؛ فكانت الحاجة الى هذا النوع من المقال أكثر من حاجة التداول الالكتروني الثنائي. وعندئذ سيكون لكل من المعنيين في محيطه ان يستخلص ويدلي برأيه، ويشير الى الحالة عندما تستجد المناسبة. وما أحلى أن يكون التداول بالدالة إياها في التعامل مع التساؤلات المخلصة لأبناء شعبنا، بدل تلك الصيحات والتشكيات الالكترونية، مما يفرز ردود أفعال فورية قلما تكون محسوبة
عوامل الهجرةجذور اقتلعت منذ عقود_____________________
الاحداث الكارثية التي حلت في العراق وعدد من بلدان الجوار، منذ العقود الاخيرة للقرن العشرين، جعلت الكثيرين يقارنون بينه وبين الغرب، فكان لهم الشعور أنه لن تقوم قائمة لهذا البلد، طالما وجد موغلا في التقهقر وللمدى البعيد، مما جعل الكثيرين يخططون من زمن الى الاستقرار في الخارج. ثم جاء الغزو الامريكي الايراني، وجعل العراق ثم المنطقة، مختبرا لتجربة تجارة المواجهة الطائفية بدماء الابرياء، وعلى حساب وجود الاقليات الاثنية والمذهبية، لتفتح بوابة الهجرة على مصراعيها، سواء بسبب الحروب أو بعمليات لمّ الشمل بنحو عنكبوتي متواصل. بعد أن كانت الهجرة قد قامت منذ الستينيات، من العراق وقبلها بعقود من بلدان الشرق الاوسط، للرغبة في الاستقرار في عالم آخر. وتفاعلت الاحداث بنحو غير مسبوق وباتجاهين: مآس وكوارث لما ينطبق عليه من ابادة جماعية، واقتلاع جماعات بشرية من جذورها، على اساس اثني مذهبي وطائفي، لليزيديين والمسيحيين والصابئة وغيرهم.
كنيسة لا تألو جهدا من تحرك إعلامي
قامت رئاساتنا الدينية بتحركات اعلامية عالمية كبرى معتبرة، لكنها بقيت أمام مواجهة معلنة وما وراءها من أسرار رهيبة لم يُكشف بنحو واضح عن مخططيها ومنفذيها، مواجهة بين العالم وبين الاسلام السياسي والاصولي. مواجهة تبدو مكتملة الادوار في اللعبة بين الطرفين، طرف يخطط لمآرب استراتيجية وطرف يتأرجح بين من هم منفذي المخطط وكبار لاعبيه، وبين لاعبين آخرين كبار، يسعون الى التهدئة والتشويق، تحت غلاف الاسلاموفوبيا.
عقلية الغالبية، عقلية فوقية متوارثة______________________________________
ومن ناحية أخرى، قامت في البلدان التي غالبيتها اسلامية، عقلية لا تقبل باختلاف الاخر وتعد التعايش
مع الآخر تسامحا مع غيّه المذهبي، وكذلك تعد ملامسة النقاش المذهبي النقدي، بمثابة الخط الاحمر دونه الرقاب. ولتشابك المصالح والتعقيدات المختلفة، لم يقم في الجانب الاسلامي لوبي رصين ومنتظم من داخل الاسلام يتصدى الى التعصب الطائفي والمذهبي، بنحو معاصر وباتجاه علماني يحترم الدين، ولا يسمح بأن تفسد الفتاوي غير المسؤولة البلاد والمجتمع وتطحن الارواح. يستثنى من ذلك، أصوات كبيرة ولكنها فردية معظمهما الكترونية في شمال افريقيا، وفي مصر والعراق، منها من بعض رجال الدين، وأخرى من الاصوات العلمانية الملتصقة بجوهر الدين وإلى جانب أصوات مستقلة عن الدين.
بعد هذه التقديمات التي توخت الشمولية، هذه محاولات استقراء لجوانب من هواجس المؤمنين، ومنهم المهجرين وطالبي الهجرة، مقارنة بموقف الكنيسة، مع محاولات للتفسير.
الرغبة المشروعة في الهجرة وموقف الكنيسة___________________________________________
هناك موقف مبدئي للكنيسة هو احترام الرغبة المشروعة في حرية اختيار الهجرة، لأي من الاسباب: لمّ الشمل، تفضيل نوع آخر من العيش، التخلص من معاناة خانقة وبسبب انتظار طويل تكتنفه المخاوف ومشاعر عدم الاطمئنان، تفضيل المغادرة على الرهان بأن الامور ستكون افضل نسبيا. وعن احتمال ان تصير الامور افضل نقول أنه يمثل نسبية فقيرة ضعيفة، أمام مقاييس حرية الفرد والتعبير عن الذات وعن الفكر بين الغرب والعراق الطائفي. ومن المعروف ان الكنائس البطريركية في البلدان الرازحة تحت الأحداث، تبقى مع رعياتها الخارجية، على الحياد من هجرة أبنائها الى الخارج، بل تترك ذلك لجمعيات المجتمع المدني، وذلك كرسالة للتآزر مع ابنائها الممتحنين في البلاد وهي تعيش في وسطهم. ويبقى هذا الموقف يفسر بكونه موقفا مضادًا للهجرة. لكن هذا الموقف الايماني المشرق بمبدئيته نراه ايضا في مواجهة مؤشرات أقل ما يقال فيها أنها لا تقويه:
مؤشرات قد تكون مؤثرة في موقف الكنيسة من الهجرةمخطط على مستوى عالمي_________________________________________________
لغير مرة، أعلن رؤساء الكنائس، ان ثمة مخططا كبيرا لافراغ المنطقة من المسيحيين. وأعلنوا ان هناك استلابًا لحرية التعبير، وأن ثمة مجاملات رسمية دونما عمل جدي، تجاه التعامل مع المسيحيين، وأن ما يعقد من لقاءات، هو حديث مؤتمرات غير متأسس على مشروع رصين.
طبيعة الاصوات المسلمة الداعمة للوجود المسيحي
الاصوات المسلمة التي تريد للمسيحيين البقاء، يميل الاعتقاد انها من الاصوات العلمانية ذات خلفية اسلامية بقيت تعلنها وترافقها؛ ولئن كانت هذه الأصوات في مستوى رسمي، غير انها قد تكون من قبيل الاصوات الليبرالية، وكلها وجدت في مواجهة غير متكافئة مع الحكم الطائفي القائم، وليس ثمة ما ينبئ بنجاحها على المدى القريب، كما أنها لم تستطع، على موقعها الرسمي بين الكتل السياسية ان تحرك الكثير في أسباب الاضطهاد، من ذلك مظلومية البطاقة الشخصية المجحفة بحق القاصرين وطرف أبويهم المسيحي.
بين نوع علمانية في زمن سابق وزرع الطائفية للمدى البعيدالنظام المدني بعيد المنال وضعيف الفاعلية في دعم الاقليات._____________________________________________________________
من المراحل النادرة التي عاشها العراقيون بنحو شبه متكافئ عندما كانت مرحلة الحزب العلماني الواحد مع توافق مع أحزاب علمانية أخرى، وذلك قبل زرع الحكم الاسلامي في ايران، وقبل قيام حرب الخليج، التي اضطرت دكتاتورية البلاد الى حملة ايمانية، جاءت لترسخ التعصب المذهبي. ثم جاءت الطائفية، بعد السقوط، كوصفة لاضعاف البلاد لأجيال لاحقة.
اصداء عن ظروف المسيحيين الباقين في البلاد: بين الحجر والبشر
إزاء الفكرة أن ثمة أناس في العراق من المسيحيين يريدون البقاء جاءتني اصداء من نوع آخر:
حدثني مؤخرا صديق من قرية بسهل نينوى بحسرة حكيم ولهفة شاعر وأخذ يسوق مثالا يعرفه: إن عمي، يا أبونا، يعمل مزارعا وله حقول شاسعة، ومثله الكثيرون ولكنهم لأكثر من سنتين، يعيشون في خيبة أمل من الجهات الحكومية الزراعية التي لا تفي بالتزاماتها نحوهم. وأضاف: لدينا بيوت جميلة في بلدتنا ولكن ما الفائدة إذا لم يكن لشبابنا عمل كريم؟ وعليه فالحجر نفسه قبل البشر، يتحين فرصة مغادرة البلاد، لو اتيح ذلك، وإن عمي هو من ضمن أولئك الذين لم يعد لهم خبز يذكر على تلك الارض. إن غالبية الموجودين في ارض بلاد الرافدين، من المسيحيين، هم من الذين اجتثت جذورهم، بطريقة أو بأخرى سواء كانوا قد هجروا من قراهم الشمالية منذ الترحيل في السبعينيات، أو ممن حرمهم النظام من رزقهم في حملة اغلاق المطاعم السياحية. بحيث بات لكل عائلة، في ما تبقى من وطن، عوائل وعشيرة كاملة في المهجر. أما التعايش المسيحي الاسلامي، فبقي على ما نذكر ويذكر اجدادنا، تعايشا، بين الاعلى والأدنى، والمسيحيون المتبقون، هم من يعيشون بطريقة تم تدجينهم عليها عبر التاريخ وبواقع الحال، مع جار يعدّ ذاته هو الأحق مذهبيا وهو المتسامح. ولم يظهر من المسلمين، موقف جاد في التعلق بجيرانهم المسيحيين، وليتنا كنا نرى ذلك ليس من خلال اصوات انفرادية بل من خلال تجمع منتظم متنامي القوة، ومن خلال منظمات انسانية مدنية، سواء من الجانب المسيحي او من الجانب غير المسيحي.
الاصرار على البقاء الى اين؟____________________________
وفي صدى متصل آخر نجد أنه في مطلع الاربعينيات من القرن العشرين، فجر ناشطون يهود مواقع تواجد
اخوتهم اليهود، في طريقة لترويعهم بهدف المغادرة الجماعية. جاء ذلك باعتراف لوزير اسرائيلي من اصل عراقي، في معرض كتاب لمذكراته. وبرغم كل الذي حدث، فإنا رأينا بعد سقوط الحكم الشمولي في العراق، عجوزًا يهودية وحيدة في البصرة، وبعض عوائل في بغداد لا تتجاوز عدد اصابع اليدين. وهنا لا تنطبق المقارنة تماما: فعلى المستوى اليهودي، كانت عودة اليهود الى ارض موحدّة ويعتقدون بعائديتها، يتجمعون فيها، وهي غير بعيدة عن ارض حلمهم الثانية.
أما على المستوى المسيحي، فقد يتعلق الأمر برغبة عالمية مبيتة ان يترك المسلمون مع بعضهم، تداعب ذلك رغبات جانب من المؤذنين المسلمين، وجانب من الجيران طامعين بما يتركه الجار المسيحي من ملك أو سيارة أو قناني غاز. ولكن برغم ذلك، ولأنه ليس ثمة موقف تهجيري رسمي معلن، هناك العديد من الاسباب التي تدعو كنيسة العراق ان تبقى، لانقاذ ما يمكن انقاذه، وتبقى مع آخر جماعة منتظمة تروم البقاء، دون بضع عائلات.
هل تقوم كنائسنا بتشجيع للهجرة غير مباشر وغير مقصود وهي ترفضها علنا؟________________________________________________________________________
إزاء واقع بقاء المسيحيين مع ما يمكن بقاؤه، وإزاء موقف الكنيسة المبدئي من الهجرة، وإزاء الخشية ان يكون خطاب الكنيسة عكسيا على الموضوع، هذه محاولات للاجابة عن بعض هواجس الناس، وبعض تساؤلاتهم المتكررة باصرار. المحاولات هي في نطاق ألا تكون العلامات التي يعطيها رجالات الكنيسة هنا وهناك، عاملا لتجميل الهجرة أمام المؤمنين بالبقاء أو الراغبين بالمغادرة وينتظرون في دول الانتظار وقد طال انتظارهم ويبحثون عمن يكون المسؤول عن هذا الانتظار.
ردود أفعال أمام ما يعدّ خطابا كنسيا معكوسا
هذه قصة جانبية، نهايتها تصب في صلب الموضوع: في تشييع البطريرك الراحل مار دنخا الرابع، كان المنهاج الذهاب مساء للصلاة على جثمانه، وفي اليوم الثاني المغادرة بعد قداس التشييع. ففي مساء الصلاة على جثمان الراحل الكبير بطريرك كنيسة المشرق الاشورية، خرجنا من الكنيسة مودعين بشكر مؤدب من قبل المسؤولين وكانوا تحت أعباء تنفيذ البرنامج. كنا مودّعين بكياسة وحيادية تنطبق على عموم الزوار، مما لم أحسبه ينطبق على أحبار وكهنة كنيسة شقيقة جاؤا بعدد استثنائي لحضور أخوي حميم في هذه المناسبة. وبعد انصرافنا بهذه الطريقة، كان بالتالي أمام الفريق الذهاب الى مكان لقضاء جانب من ذلك المساء في أحد الأماكن وتناول الطعام. وكم كان الود، أن يكون ذلك الجانب في لقاء وجداني على مائدة شاي وقدح ماء بارد مع الاشقاء في كنيسة المشرق الاشورية، خصوصا وأني كنت ببساطة عميقة أعد أعضاء فريقنا الزائر بمثابة ضيوف لهم في هذه المناسبة الوجدانية. وقد تم وضع صورة في الفيسبوك، لتلك الجلسة على مائدة دائرية تجمع الاحبار الخمسة وبضع كهنة: فجاءت الصعقة الكهربائية من أحد المعلقين، مختار من شمال الوطن: اضربوا صارت كلها لكم... فتم رفع الصورة على رؤوس الأصابع...
وتقول قصة أخرى، أنه في زمن النظم السابقة، عندما كان السفر استثنائيا، في ظروف الحرب والحصار، خاطب احد عموم الشعب المؤمنين صديقه أحد الكهنة العائد من السفر بالقول: هنئيا لكم هذا الحل والترحال! فأجابه الكاهن بدالة الصداقة عينها: وماذا لو صرت كاهنا انت ايضا لتخبر ما نختبر! واعتقد أن مثل تلك الرسالة كانت قد وصلت بطريقة وبأخرى في هالة للمهام الكهنوتية في الداخل والخارج، فاجتذبت، بزمن الحصار والحرب، العديد من الدعوات الكهنوتية، أكثر من الازمان الاعتيادية، وإذا بها فرصة ذهبية لهم لاكتشاف جمال الرسالة الكهنوتية قلبا وقالبا، وصار العديد منهم كهنة، والعديد من اولئك الكهنة، صاروا من خيرة الكرامين في حقل الرب.
كهنة صامدون وبضع اساقفة معتصمون وشعب مقطوع السبل
وقال متحدّث بشأن الحالة في الداخل: كثيرون من العوائل هم من الشعب مقطوع السبل للخروج، فالأمر يحتاج الى ميزانية خارجة عن حساباته. ومع ذلك فإن بقاءهم ينعشه، كهنة صامدون يقيمون معه، لا يغادرونه، مع بضع أساقفة معتصمين في رعياتهم. وبهذا الصدد هذه بضع تساؤلات طالما ترددت على مسامعنا ومعها محاولات إجابة:
* يتبادر تساؤل كهذا: هل هناك من داعي لهذا العدد من الأبرشيات والأساقفة، قياسا بأبرشيات كاثوليكية تشتمل كل منها على 50 خورنة وثمانين كاهنا ومن الخورنات مع يبعد عن المركز اكثر من 200 كم؟
- ما يفصل عن ابرشياتنا في البلاد، لا يقارن بما يفصل الخورنات في خارجها. فبلادنا التي ترزح تحت نير الفساد، ليس لها شبكة طرق أمينة، والتنقل فيها للامور الراعوية، هو مجازفة غير حكيمة.
- منذ الستينيات، تزامن انحسار عدد الابرشيات مع نزيف الهجرة، في ظل العراق المضطرب وتحت نير غالبية شمولية ساحقة، فبعد انحسار ابرشية عقرا والزيبار، في الستينيات من القرن العشرين، ها هي في العقود الاخيرة ابرشيات كلدانية تتحول الى مدبريات بطريركية أو أسقفية، في تركيا ومصر، واخرى اندمجت بين زاخو ونوهدرا، وبين السليمانية وكركوك. وهكذا في العقود الاخيرة شهدنا في داخل البلاد، بسبب الاضطرابات والهجرة انحسار خمس كراسي اسقفية عاصرناها في حياتنا. ولكن مهلا فلم يصل بنا الحال، بعد أن يكون لنا كاهن واحد يخدم في البلاد، مثلما يوجد الان كاهن لإحدى الكنائس في الكويت، وآخر في الامارات وثالث في قطر- بيث قطرايي.
*ما الذي يجعل أحبارنا بمجموعة مجتمعة، تغادر البلاد لهذه المناسبة أو تلك؟
-البيت البطريركي يمكن أن يعد بيتا متنقلا: هذا ما يمكن أن نستشفه بحسن نية، فالبطريرك لا يذهب للنزهة، ومن ثم فالبطريركية معه حيثما كان مما يجعل البيانات والتقارير الاخبارية، تنزل اولا بأول في الموقع البطريركي الالكتروني، من خلال السفر كفريق عمل، ولا بدّ لغبطة البطريرك اسبابه الشخصية، ولن يصعب عليه الادلاء بها في حينها.
*ما الذي يجعل أن عددا متبقيا من الكهنة مع بضع أساقفة معتصمين في ابرشياتهم يقومون بتمشية امور المتبقين في البلاد، بينما في خارج البلاد، يتواجد سواء بالتعيين او المهمات الرسولية والاعلامية، بنسبة 12 من أصل 16؟
الجواب عن هذا السؤال رأيته في بضع محاور:
-قبل كل شيء، السؤال يوجه الى الاساقفة المعنيين المعتصمين في ابرشياتهم شمالا وجنوبا، لعلهم الافضل ممن يعبر عن نفسه؛ لكني أرى أن هؤلاء الاساقفة االماكثين في ابرشياتهم، هنا وهناك، علامة عافية ورجاء للشعب المسيحي الباقي في البلاد. وهم أيضًا، في المناسبات الاستثنائية تضطرهم الظروف لافراغ البلاد من الاساقفة، عندما رفع عن بغداد موقعها كقبلة اجتماع المجمع المقدس، لتحلّ محلها روما، بسبب ظروف تغير الخارطة الجغرافية للابرشيات. وفي الوقت عينه، فإن مساحة حركة الدائرة البطريركية، لا تقتصر على بغداد بل تمتد الى آفاق بطريركية ومسيحية واسعة النطاق.
-مهما تحدثنا عن ان الكوكب الارضي اصبح افتراضيا قرية صغيرة، فإن اللقاءات عن بعد، بالصورة والصوت، تبقى محصورة في نطاق البلد الغربي الواحد. أما المؤتمرات المهمة، فإن حضورها يعدّ كسبا لمسيحيي العراق والشرق الاوسط، ورعياتهم في بلدان الانتشار ولا تحصى الفوائد من ذلك، مما استقطب المنظمات الانسانية والاغاثة، ومما حرك بعض الشيء في الرأي العام، على أمل أن يكون كل هذا بمواجهة فاعلة أمام المخطط المحاك ضد المنطقة، لتغييرها في الجانب الجيو سياسي. وإزاء هذه الأولويات، قد تستجد الحاجة إلى أن يكون ثمة تخصص اسقفي لشؤون المؤتمرات، مما يفرغ المجال للخدمة الراعوية، في زمن هاب البابا بأساقفة العالم بألا يصبحوا أساقفة مطارات.
استخلاصات: الخارطة الديمغرافية الجديدة لمسيحيينا الكلدان
وهذه محاولة إجابة أخرى عن سؤال تواجد أحبارنا المتواتر في خارج البلاد:
-لقد قام نوع من التوأمة الروحية والراعوية المشرقة، بين كنائس اوربية وخصوصا الفرنسية منها. هذه التوأمة ايضا عادت بمردود طيب على مسيحيينا في الداخل وبرسالة معبّرة للحكام والبرلمانيين في الداخل. كما أن التواجد الديمغرافي لأبناء الكنيسة الكلدانية إزاء ما يقابله من تواجد ديمغرافي متواضع في الداخل، لا بد وأنه يستقطب هذا الزخم من الحضور الحبري الكنسي في مختلف المناسبات.
-وقد افلحت الكنيسة ازاء ما يعقد من تجمعات في الخارج وبحسب الظروف والأمكانات، ان تعمل ما يشابه ذلك في الداخل، برغم محرمات (تابوه) الوصول الى العراق. ونأمل من الرب ان يمضي في إنارة القلوب والدرب على خلق مثل هذه المناسبات، في المناطق الاكثر استقرارا في البلاد ليكون التفاعل الديمغرافي ما بين أوربا والعراق متبادلا.
-أبناء الكنيسة الكلدانية، كعموم مسيحيينا في العالم، يشكل تواجدهم بنحو متفاوت الحجم هنا وهناك، كحالة تشبه الاواني المستطرقة، مثلما حدث في افريقيا الشمالية ومناطق أخرى من العالم عبر التاريخ: تنحسر المسيحية في مكان لتظهر بزخم آخر في مكان آخر. خصوصا وأن غبطة البطريرك قال فيهم: ان المسيحيين الذي هُجـّروا إلى الداخل والذين التجاؤا الى الغرب، وقد زرت معظمهم، لم يحملوا معهم سوى إيمانهم ولغتهم وتقاليدهم وأخلاقهم وثقافتهم العراقية والمسيحية وهذا يشحن رجاءنا.
-إن تواجد كنيستنا المتواصل والمشرق في رعايا بلدان الانتشار، هو حالة تشد من معنوية المهاجرين، كما هي، شئنا أم ابينا، طريقة غير مباشرة، لتطمين الذين يودون الهجرة، بأن ثمة حياة راعوية قريبة من قيم الشرق، يحملونها معهم وينمونها.
وأخيرا، الأمل كل الأمل هو الفصل بين ما توحيه رسالة تواجد أحبارنا في الخارج في شحن ايمان المغتربين، وتطمين الذين على طريق الهجرة بأنهم ليسوا أمام المجهول، وبين موقف الكنيسة البطريركية ورعياتها، بألا تكون الطرف اللوجيستي والاعلامي، وبمثابة نفير فرماني لاخلاء البلاد من مسيحييها، فكل شيء يأتي في حينه. وخلصت الى القول لصاحبي: لعله في المناسبات الاخرى، يا صاحبي، سيحسب الحساب لما طرحت وطرح غيرك من تساؤلات، ما دامت النيات الحسنة تجمع مختلف الاطراف.