السريانية في نـدوة بـين الآثـورية والـكـلـدانية / سـدني
وجـهة نـظـر مستـقـلة
بقـلم : مايكـل سـيـﭙـي / سـدنيالحـقـيقة واحـدة ، إن وُضِـعـتْ تحـت الشمس لمعـتْ وإن باتتْ عـلى الظـل خـفـتـتْ ، وإنْ أخـفـيناها بـيـدِنا نـكـون قـد أعـدَمناها وإدّعـينا بأنّها تـوارتْ ثم ضاعـتْ . فالحـق مُـرٌ المـذاق يصارع الـتـلـفـيق ولا يحابي الرفـيق ، والـبديهـيات لا تجامل الشقـيق ، ومثـلما السامِريُّ داوى جُـروحاً بالمَروح ، هـكـذا الغـموض يُـدحَـض عـنـد الوضوح .
بـدعـوة شخـصية مشـكـورة من الإعلامي الأخ ولسن يونان مدير القـسم الآثـوري في إذاعة ( SBS ) الأستـرالية لـبّـيتُ وحـضرتُ نـدوة مسائية حـول لغـتـنا في قاعة لانـتانا ــ نادي بابل الـكـلـداني بتأريخ 19 آذار 2013 أدارها الأخ ولسن نـفـسه بكـفاءة عالية مُـقـنـناً الوقـت لستة رجال خـبراء محـتـرمين لهم باع جـيـد في هـذا الحـقـل إستمرت مع الإستـراحة والأسئلة ما يقارب الساعـتين . لاحـظـتُ جـلوس المتكـلمين خـلف الـطاولة الأفـقـية الواسعة بتسلسل مـدروس أمام الحاضرين ، فـثلاثة من الإخـوة الآثـوريّـين يكافـئهم ثلاثة ممن يُـعـرَفـون كـكـلـدانيّـين جـلسـوا بالتعاقـب أمام الحـضور ( آثـوري ← كـلـداني ←...... ) إتسموا بإلـتـزام لـيِّـن وهـدوء مُبـين .
الأخ ولسن معـروفة لـباقـته اللغـوية بلهجـته الآثـورية في هـكـذا مناسبات جـماعـية أو مقابلات إذاعـية ثـنائية ، وإستخـدامه المصطلحات بلغـتـنا الـفـصحى ، غـير المتـداولة في الأوساط الشعـبـية وبالأخـص عـنـدنا نحـن أبناء القـومية الكـلـدانية ولكـنه ذكيٌّ يعالج الموقـف فـيلحـقـها بترجـمتها الفـورية بالعـربـية لـيوضح الغـوامض في أغـلب الأحـيان بصورة آنية .
كان عـدد الحـضور بحـدود 60 شخـصاً غـلب عـليهم الـرجال حـين عـرض الأخ ولسن تـوطـئة أولية مبـيناً غاية الـنـدوة هي طرح الآراء حـول كـيفـية الإرتـقاء بلغـتـنا وإحـيائها إلى المستـوى الـذي نـطمح إليه والإستماع إلى الإخـوة المتكـلمين دون فـرض رأي بصيغة أمرية ، فـبـدأ بنبـذة مخـتـصرة عـن السيرة الـذاتية للمُحاضر الأول مشيراً إليه بكـياسة إلى أنَّ الوقـتَ المخـصص له محـدود بدقائق لا تـتجاوز العـشر ، وهـكـذا برزانة مع باقي المحاضرين حـسب أدوارهم المتسلسلة ، ثم إزداد عـدد الحـضور حـتى تجاوز الـ 75 شخـصاً .
طـُرِحَـتْ آراء جـميلة وخـُـطَـط عـمل بـديعة أكـثرها مشجعة ولكـنها ليست جـديـدة بل متـداولة بـينـنا بصورة عـفـوية وتكاد تكـون يومية فـكانت الـنـدوة سطحـية لا تـُـشـبع طـموح الأكـثرية ، فالإخـوة المحاضرون لم يغـوصـوا في أعـماق لغـتـنا الـتأريخـية ، ومن جانبي أعَـلـِّـل ذلك لسبَـبـين : (1) إما أن الأرض صخـرية والحـفـر فـيها بالوسائل التـقـلـيدية لا تـُجـدي أية نفـعـية ، وليس عـنـدهم غـيرها في المرحـلة الحالـية (2) أو أنها طـينية فـزيادة الـتعـمُّـق فـيها قـد تـفـيض عـليهم مياهها الجـوفـية فـيَـبْـتـلون بغـرينها وتـذهـب الجـهـودُ سُـدىً وهـدراً ، في وقـت ليسـوا يهـتمون بالبحـث عـن مناجـمها بل الـتبخـتر المؤقـت مشياً فـوقها .
إن الآثـوريّـين عامة ترتسم عـلى وجـوههم ونبرات صوتهم مشاعـر قـومية آثـورية لأسباب معـروفة ( وإذا تسأل عـن هـوية أياً منهم وأينما يكـون ، يقـول لك : آنا آطـورايا ! ) حـتى أولـئك المولـودين في أسترالـيا أو الحـبانية ، إلاّ أنـنا نلاحـظ تجـنـبهم المصطلحات العـربـية ولا أدري عـلـتهم منها وهم يتـثـقـفـون ويكـتبون دساتيرهم بها ( وإنْ إضطـروا لبعـض المفـردات ، يستعـينون عـلى الأغـلب بالإنـﮔـليزية ! ) متـناسين دَور الإنـﮔـليز الـقـذر معهم عَـبر التأريخ حـين أوقـعـوهم في فخاخ ومطـبّات دينية ودنـيوية ! وجـعـلوا منهم ــ متهـمون ــ في نـظـر الماضي من الحـكـومات الـوطـنية ، فـتبعـثـرَ بعـضهم متغـرباً وإستـتـرَ الآخـر عـنـد إخـوانهم عـلى الأراضي العـراقـية ، ولكـن بعـد خـراب الـبصرة زارعـين في أذهانهم أفـكاراً سـلـبـية ما بـرحـوا حـتى الـيوم يعانـون من آثارها الـنـفـسية ، بل وبسبـبها وتـداعـياتها صارت لهم مواقـف سـلـبـية تجاه إخـوتهم أبناء الـقـومية الكـلـدانـية .
أما الإخـوة المحاضرون الـكـلـدان لستُ أنـكـر مشاعـرهم القـومية ولكـنها ( مغـطاة تحـت تراكـمات غـبار الأزمنة الماضية ) حالهم مثـل حال كـل الكـلـدان يتكـلمون دون أن تـنبعـث من بـين ثـناياهم إشعاعات كـلـدانية ، خاصة وهُـم معـلمون ومحاضرون وكـُـتاب وقادة إجـتماعـيّـون بل وشمامسة يقـرأون ويرنمون ويحـضرون في الكـنائس الكـلـدانيّة ، ولا نخـفي فإنَّ لهم أسبابهم الـداخـلية .
لـقـد لاحـظـتُ المحاضرين الكـلـدان يحاولون الـتـكـلم بمصطـلحات فـصحى ولكـن بتـصنـُّع ملحـوظ وَ تأني منـظـور ولستُ أعـيـبهم عـليها فـهـذا واقع أبناء الأمة الكـلـدانية ، بل أنَّ أحـد المحاضرين لم يستخـدم مفـردات الفـصحى كـثيراً إلاّ أنَّ لهجـته العامية كـلـدانية صرفة ، بـرّاقة كالشمس وكأنه بـين أصدقائه في محـلة ألـقـوشية .
يُـفـتـرض بنا نحـن الكـلـدان أنْ نحاكي إخـوتـنا الآثـوريّـين لا تـنافـساً بل غـيرة إيجابـية فـنذكـر إسم قـوميتـنا بإفـتخار وإقـدام برأس مرفـوع بجـدّية ( دون أن نسجـل ذلك نـصراً لـنا ) بل نجـعـلهم ينبهـرون من إعـتـزازنا بقـوميتـنا الكـلـدانية ، مثـلما نحـن نمتـدحـهم عـلى مشاعـرهم الـقـومية ، وإنْ لم يُـسِـر ذلك أحـداً من أي طـرف فـتلك مشكـلته الشخـصية وهـو حـر في معالجـتها أو المعاناة منها ، عِـلماً أنـنا تـربَّـينا عـلى تربة واحـدة وشربنا من نهـر واحـد وتـنـفـسنا هـواءاً واحـداً وأكـلنا ذات الثمار من بساتينها الـطـبـيعـية .
لـفـتَ سمعي إلى الأخ المحاضر الأول حـين قال أن باحـثاً مُـطـلعاً عـلى لهجاتـنا المتـنوّعة وزّعـها إلى أربع مجاميع رئيسية ، وإنْ لم تخـني ذاكـرتي كانت كما يلي : أورمي ـ تركـيا ـ سـوريا ـ الجـنوب ويقـصد زاخـو حـتى تلكـيف . إنَّ هـذا لـيس خـطأ من وجهة نـظـره ، إلاّ أنـنا إذا إعـتمدنا مقايـيـسنا المحـلية يمكـنـنا أن نـقـسمها إلى أكـثر ، وذلك بسبب الـتأثيرات الزمانية والمكانية ، وكمثال عـلى لهجة الجـنوب فإن زاخـو وفـيشخابـور تخـتـلف عـن ألقـوش وتـتميَّـز عـن تلكـيف ، كما أن لهجة شقلاوا متباينة عـن عـقـرة ... ولكـن هـناك بعـض التـشابه مثلاً بـين عـقـرة وفـيشخابور .
المحاضر الثاني تكـلم بالتـفـصيل عـن حـبه للغـتـنا وأسهـبَ في عـبارات شحـذ هِـمم الأجـيال القادمة للإقـدام عـلى تعَـلـُّـمِها وهـكـذا كان الثالث مشيداً بضرورة تعـلـُّـمها قـبل ضياعـها ، أما الرابع فـقـد بـدا متـفائلاً بفـضل التكـنـولوجـيا الإلكـتـرونية الحـديثة وما وفـرته من سهـولة نقـل المعـلومات بلغـتـنا وحـروفها الأبجـدية ، ثم كان دَور الأخ الخامس الـذي شجع التعـلم عَـبر المدارس الـنـظامية ، حـتى جاء المحاضر السادس فـتكـلم عـن العائلة التي هي المؤسسة البادئة في الـتعـليم ، وأشاد بالأم بإعـتـبارها المدرسة الأولى يمكـنها أن تلعـب دَوراً رئيسياً في هـذا المجال . وبعـد إستـراحة قـصيرة فـسِح المجال لأسـئلة الحاضرين فـكانت بسيطة جـداً ، ثم إنـتهـتْ الـنـدوة قـبل أن تـسنح الفـرصة كي أطرح سـؤالي الـذي كـنتُ قـد هـيّأته للإخـوة المحاضرين مسبقاً ، فأقـول :
لـو أنَّ عـشرة أشخاص إجـتمعـوا في مدينة فـيرفـيلـد وقالـوا أنَّ لـنا قـومية إسمها القـومية الفـيرفـيلـدية ! فأنا سأحـترم إخـتيارهم طالما هـي رغـبتهم ، وإذا كـنتُ فـضولـياً سأستـفـسر منهم عـن تأريخهم ولكـني لا أنـكـره عـليهم حـتى إذا لم أقـتـنع بهم لأن قـناعـتهم مُـلكـهم فـلماذا أعارض شعـورهم . ذكـرتُ هـذا كي لا يُـظـن بأني أتـنـكـر لمشاعـر أية مجـموعة وأتجاهـل إسم قـوميتها .
نجـد وراء كـل لغة شعـباً وليس العـكـس ، وهـناك شعـوب تعـرّضـتْ إلى غـزو وعـنـف وظـلم وأنواع الإضـطـهاد فـفـرِضـتْ عـليها لغات دخـيلة فـتبـنـّـوها صاغـرين وتاركـين لغـتهم الأصيلة فـلم يـبقَ منها سـوى آثارها عـنـد الأقـلية ، كما حـصل في شمال إفـريقـيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية وهـناك عـدة شعـوب تـشتـرك في لغة واحـدة والأمثـلة عـديـدة .
إنّ شعـوب بـيث نهـرين حـصراً تسمَّـتْ بأسماء عـديـدة نسبة إلى شهـرة مـدينـتهم أو عاصمتهم أو معـبودهم أو جـدّهم الأكـبر ... فـكان السومريّـون والأكـديّـون والكـلـدانيّـون والآراميّـون والآشـوريّـون ، ولا أدري إنْ كانت هـنالك أسماء أخـرى . إن لغة هـذه الشعـوب بـدأتْ بلغة الكـلـدان القـدامى ثم بمرور الزمن تعـرضتْ إلى تـطـعـيم بمفـردات محـلية مجاورة نـتيجة الغـزوات والهجـرات والـتـطـوّر الـطـبـيعي للحـياة فـتـنـوَّعـتْ تسمياتها لكـن العـمود الـفـقـري للغة الأصيلة بقي صامداً ولم يتغـيَّـر .
الـيوم هـناك شعـب يسمي نـفـسه سـريان ونحـن نحـتـرمه كـل الإحـتـرام ، إنما حـباً بالبحـث نـقـول أنـنا لم نـقـرأ في التأريخ الـقـديم عـن شعـب إسمه ـ السريانيّـين ـ مثـلما قـرأنا عـن السومريّـين والبابليّـن .... وعـليه فـسؤالي : بعـد فـشـل محاولة تـلبـيسـنا رداء اللغة الآشـورية ، هـل هـذه محاولة ثانية سخـية معـنا فـينـصبون لـنا خـيمة منسوجة بخـيوط سريانية بحجة حـمايتـنا من أشعة الشمس الـصيفـية ؟ في وقـت صرنا نستـنهض مشاعـرنا ونرى أنَّ لغـتـنا الـكـلـدانية خـير مظـلة لـنا في كـل الفـصول السـنـوية .
كـنا نـتـوقع من الإخـوة المحاضرين أن يـعـطـوا تـفـسيراً لكـلمة السريانية ، متى وكـيف تغـلغـلتْ بـين زحـمة مفـردات لغـتـنا الكـلـدانية ، هـل هي صحـيحة أم بـديلة أم إبتـكارية ، هـل هي مرحـلية سياسية أم أصيلة تأريخـية ، وعـنـدئـذ تكـون الـنـدوة مشـوّقة بهـية ، تـثار عـنـدها أسئلة عامة وأخـرى منـطـقـية بإثارة جـدلية ، إغـناءاً للحاضرين ولمعـلوماتهم العـلمية .