الخـيال والتخـيّـل في الحـياة الروحـيّة للإنسان
بقـلم : مايكـل سـيـﭘـي / سـدني
مهما كـثرَتْ البحـوث عـن الإنسان عَـبرَ الزمن ورغـم تـقـدّم المعـلومات الفـيسيولوجـية لأقـسام جـسده بفـضل التـكـنولوجـيا فإن كـنهَه يـبقى غامضاً ، ولكـن ما نعـرفه اليوم وما سيُـبحَـث في المستـقـبل عـما بـداخـله من طاقة روحـية ونـفـسية ومعـنوية وفـكـرية وتـصوّرية وإبـداعـية وكـل ما يتعـلق به من الوعي و ــ اللا مادية ــ سيـبقى ضئيلاً لأنها لا تخـضع لقـياسات المخـتـبرات والرياضيات وإنما تـتـطلب الإنصراف إلى الخـلوة والسكـينة للتأمل بأشـبه ما يكـون برؤيا أو إخـتـطاف روحي بعـيـداً عـن صخـب الماديات الأصعـب بكـثير من لمس الأجـساد وقـياسها بالميزان والحاسبات .
إن عالم الروح والنـفـس والفـكـر ينـدرج ضمن عِـلم الغـيب والتـصوّف والإيمان ، ومعها الصدق والـثـقة والحـب والكـُره والأخلاق .... يمكـن أنْ تـُلاحَـظ من داخـل الإنسان وتـدرَس عـن طريق التأمل والتخـيُّـل النابع من مستـودع أو محـطة تجـهـيز هائلة محـفـوظة في أعـماقه يصعـب الإبحار إليها من موانىء خارجـية ، إنه موضوع مستـقـل بحـد ذاته ــ وليس منـتمياً أو متعاطفاً ــ سـواءاً يأخـذه الإنسانُ إلى عالم الهـيام الـذاتي ، أو هـو الـذي يأخـذ الإنسانَ إلى عالم العلاء فـكِـلتا الحالتين تمثلانه كائـناً غـريـب الأطـوار ذي جـسـد وطاقة خـياله منـدمجة في (
وحـدة كائن ) .
يقـول نيتـشه : إن الطبـيعة إستـطاعـتْ أن تأتي بإنسان غـليظ الرقـبة لكـنها أبعـدته عـن قـوة الخـيال ................. إن ذلك واضح في أنـنا لن ــ أو من الصعـوبة أن ــ نجـد فـيلسـوفاً أو فـناناً مرهـفَ الحـس بـين رياضيّي قـوى الأجسام من رافعي الأثـقال ولهـذا فإن زوجة أفلاطـون كانـت تـتـشـكى من أنه جـلب الشهـرة أكـثر من الخـبز لـبـيته ، وكأنَّ الإبـداع في الخـيال أو إطلاق العـنان له يكـون عـلى حـساب تراجع فـعاليات الجـسـد والمؤدي إلى خـموله ، وهـكـذا فالتركـيز عـلى الجـسـد وترويضه وإثارة أعـضائه يُـبعـد صاحـبه أو يعـيقه من الولوج إلى فـضاء الفـكـر والخـيال . وفي الحـقـيقة عـنـدما نـتمادى في الطرق عـلى الجـسد لتحـفـيز نشاطاته ونلح في تـلبـية إحـتـياجاته ونوصِله إلى قـمة إنـتـشائه وإكـتـفائه ! عـنـدئـذ يطفح كـيله وينـفجـر بصمت وهـدوء وينـتـقـل إلى حالة إرتخاء أعـضائه أشبه بالـسُـكـْـر والغـيـبوبة فـيتلاشى الخـيال ، وهـنا يصح الـتعـبـير إذا قـلـنا أنه يصبح نـصف ( وحـدة كائن ) .
حـين يُـفَـعِّـلُ الإنسانُ خـيالَه فإنه يتخـيَّـل ، لا كخـدعة وإنما كـقـدرة عـلى إبتـكارٍ تـقـف وراءه قـوة دافعة متأهـبة عـنـد الطـلب ، فحـين تعجـز الحـياة المادية عن توفـير الرغـبات ، يلعـب التخـيّل دَوره لـيستخـرج ويصوِّر ما يطمح إليه من مخـزون إمكانيات الـذات الباطنية ، وعـليه فـهـو حالة صحـية أبـدعها الخالق ووفـرها في داخـل الإنسان كصمام أمان ينـظم إنسـيابـية الـتـنسيق بـين عـنـصرَي وحـدة الإنسان الجـسـدية والروحـية بصورة جـميلة .
وقـد يأخـذ الخـيالُ بنـظر الإعـتبار ما تـنـقـله له الحـواس الخـمس ولكـنه ليس متـوقـفاً عـليها حـصرياً ، فـفـقـدان البصر مثلاً ليس عـوَقاً لصاحـبه بل يَستـثـمر عـنـده طاقة بصرية أخـرى لامرئية ( بـدون عـينين ! ) أو أي نوع آخـر فـيُـبـدع بها بـدلاً مِن تلك المفـقـودة ، وهـكـذا نرى اليوم مُقـعَـدين وصُمّاً لكـنهم ذوو مؤهلات وقابليات يعجـز أمامها المبصرون والأسوياء عامة .
بتأريخ 5 آب 2007 حـضرتُ محاضرة لكاهـن كاثـوليكي كـلـداني أعجـبتـني ، تـكـلم فـيها عـن سـفـر التـكـوين ... وأيـدني حـين قـلتُ له ((
سـيأتي يوم يقـول الكاهـن في كـرازته للمؤمنين : أريـد كـل واحـد منـكم أن يصبح ، ألله ! )) فغاية الإنسان هي الكـمال الـذي أوصانا به المسيح والـذي يريـدنا أن نـصِل إلى كـمال الله اللامرئي الخلاّق .
إن عـملية التخـيل تـنـشط عـنـد عـنـفـوان العـمر ، ووتعـرض مصوَّراتها عـلى شاشة شبكـية العـين في الـداخـل وتأتي إسترجاعاً لبرامج محـفـوظة مسبقاً بالإضافة إلى الإبتـكار والإبـداع ــ ولن تـكـون عـملية تـذكــُّـر دائماً ــ وليس بالضرورة أنْ يـقـود التخـيُّـل إلى ممارسة فـعـلية ... كـما أنّ التحـرر منه ليس بالأمر المستحـيل أو العـويص ولا يقـتـصر عـلى المتـصوفـين المتعـطشين إلى القـيم اللامادية العـليا ، بل يمكـن لـصدمة تـصيـب الإنسان أو أية قـناعة مفاجـئة تـكـفـيه للـتـوقـف عـن التخـيل وهـو لا يزال حي يُـرزق ... .
في محاضرة لكاهـن كاثـوليكي ماروني سألته في عام 2014 : إن روح الله موجـودة في الإنسان منـذ يوم نـفخها فـيه ... وروح الله موجـودة في المسيح الـذي إستـودعـها بـيديه وهـو عـلى الصليب ... فـما الفـرق بـين المسيح والإنسان ؟ تـفاجأ وقال إنه سؤال جـيـد ... وفي النهاية لم يُجـب بما يُشبع الظمأ .
لم تـتـشـوَّه صورة الله فـينا إلاّ عـلى أيـدينا نحـن الـبـشر وذلك من أنانيتـنا كي نهـيمن عـلى الإنسان بالترهـيب من الغـيب غـير المنـظور ، مما حـدا بكاهـن كاثوليكي كـلـداني دومنيكي ( أصبح مطراناً ) إلى االتـصريح التالي : كان كارل ماركـس محـقاً حـين قال أن الـدين أفـيون الشعـوب ! لأن آباء الكـنيسة عَـبر التأريخ شـوّهـوا صورة الله في نـظـرنا فـجـعـلوه قاسياً منـتـقـماً معـذباً متـناسين أن الله محـبة ،
وفي حـينها فإن أغـلب الحاضرين أظهـَـروا سـذاجـتهم بهـزة رأس كاذبة توحي إلى أنهم هـضموا كلام الـكاهـن وقـبلوه !! ولكـن سـذاجـتهم تـتلألأ أكـثر حـين ينـطق عـلماني أمام مسامعهم ذات التـصريح فـيصفـونه بالملحـد المناوىء للكـنيسة وووو ..