كـتب السيد داود بـرنو بتأريخ 23 / 12 / 2010 مقالاً بعـنوان : ( إن لم نطالب بالمحافظة الآن فما هـو البديل ) ، سؤال وجـيه ومنطقي ، ويسرنا في هـذا المقال أن نقـدِّمَ رؤيانا البسيطة بديلة عـن أنماط التـقـوقع والإنكماش والإنـزواء وسَجـن الذات في قـفـص معـزول بعـد أنْ ألِـفـنا العـيش في ساحات العـراق كـله ضمن اللوحة الفـسيفـسائية للشعـب العـراقي ، في بصرته وموصله وكـوتِه ورماديته وناصريته وأربـيله ...... دون أن نـفـصل ألقـوش وتللسقـف عـن العـراق ، إنه عـراقـنا الجـميل . فـفي مقالنا ( لقاء مساء الثلاثاء والأضواء ) المنشور سابقاً تـطـرّقـنا إلى ما يُـخـطـِّـط له البعـض ممن عُـيِّـنـوا قادة لأبناء قـومنا عـند الحـكومة في بلدنا الأصلي عـراق بـيث نهـرين ، ونـوَّهـنا إلى ما تعـنيه تلك الخـطط ، والعـواقـب المحـتملة والمدمِّـرة لشعـبنا المسيحي عامة إذا ما نـُـفـِّـذَتْ ، فهواة المناصب وجـمع الدولارات في هـذا العـصر تهمُّهم مصالحهم وليس شعـوبهم ، وما التبجُّح بالمصطلحات والخـطابات إلاّ لِـذرّ الرماد في عـيون الذين ينـتـظرون منهم الإنجازات ، ولا حَـول لهم ولا قـوة سوى قـبول الأقـدار والمفاجآت . ( الوقاية خـير من العلاج ) شعار يسقـط عـنـد إنـتشار المرض : عـنـد إنـتـشار مرض ما بـين مجـموعة كـبـيرة من البشر ، فإن العلاج لا يـبدأ بوضع كـيس الماء الحار عـلى جـوانب المرضى ، ولا بشد رؤوسهم بقـطعة قـماش ، ولا بشربهم مغـلي زهـور البَـيْـبون ، وأيضاً لا يـبدأ العلاج بكـتابة التعاويذ وتعـليقها عـلى صدورهم أو بتـقـديم النذور وتبخـير البخـور ، بل إنّ الأطباء والبايوكـيميائيّـين يدرسون الحالة مبتـدئين بالفـحـص السريري للمصابـين وإجـراء تحاليل عـديدة وتصوير جـسمهم شعاعـياً وأمور أخـرى ، بهدف الوصول إلى جـذور المرض والعـوامل التي أدَّتْ إليه ومنابعها والتعـرف عـلى الـﭭايروسات المسبِّـبة له وإخـتبارها ، لمعـرفة المضادّات الحـيوية التي يمكـن أن تعالجـها وتـقـضي عـليها ، عـنـدئـذ تــُـجَـهَّـز الأدوية وتعـطى للمرضى لعلاجهم وشفائهم . وهـكـذا عـند ظهـور أية آفة إجـتماعـية خـطيرة عـلى أبناء الشعـب فإن القائمين عـلى إدارة البلاد يـبحـثون عـن مصادر تلك الآفة لمعالجـتها من جـذورها وليس من سطحها ، فإذا كان هـناك رواج للمخـدرات في البلد مثلاً فإن السلطات في الدولة تـحـقـق في الموضوع كي تـصل إلى المنابع التي تــُـزوّد هـذه المادة لقلعها من أصلها ، ثم إكـتشاف طرق نـقلها ليتمَّ قـطعها ، ثم معـرفة مُروّجـيها وإيصالها إلى مستهلكـيها لمعاقـبتهم ومنعهم من المتاجـرة بهذه المادة المحـظورة والفـتاكة بالناس كي يصبحـوا عـبرة لغـيرهم ، هـذا بالإضافة إلى برامج التوعـية في مؤسسات التعـليم ووسائل الإعلام . آيـديولوجـيتان متباينـتان : أنـَـوِّهُ القارىء اللبـيـب بأن نـظرة المسيحي إلى البوذي والمسلم والملحِـد والمجـوسي واليزيدي والهـندوسي وغـيرهم هي : إنهم أناسٌ خـليقة الله ولهم حـق الحـياة والتمتع بها طبـيعـياً ومنـطقـياً وقانونياً ، وأمنيته ( أقـول أمنية المسيحي ) أن يحـصل هـؤلاء عـلى خـلاص نـفـوسهم في الحـياة الأبـدية من خلال إيمانهم بالمخـلـّـص يسوع المسيح بعـد أن يعـرفـوا الحـق والحـق يحـرّرهم ، دون إكـراه أو خـداع أو إستـغلال للظروف أو أية وسيلة أخـرى مرفـوضة بحـكم قـوانين البلد ومن ضمنها التبشير أينما هـو ممنوع . إنّ أقـطاراً كـثيرة في العالم اليوم يحـكمها المسلمون بعـد أن إحـتلتها الجـيوش الإسلامية البارحة بقـوة السيف ، والعـراق ومصر نموذجان حـيث يواجه المسيحـيون المسالمون فـيهما حالياً ظاهـرة ظالمة مؤلمة رهـيـبة أيَّـما إرهاب وكأن التأريخ يرجع إلى الوراء ، يُـقـتلون ذبحاً بالسكـين أو رمياً بالرصاص أو حـرقاً بالنار أو خـنقاً بالحـبال وكـل وسائل إنهاء حـياة الفـرد عـلى الأرض ، بأيدي أفـراد وجماعات تـنادي ( الله أكـبر ) عـند كل عـملية سفك دماء ، ويتـفاخـرون بتـصريحاتهم بوسائل الإعلام العالمية بأنهم مسلمون ، ولا يكـتـفـون بذلك السلوك الدموي الهمجي بل يطلقون التهـديد والوعـيد للمسيحـيّـين الباقـين ، بالقـتل إنْ لم يغادروا الأرض التي رُوِيَـتْ بدماء آبائهم وأجـدادهم شهـداء المسيح عَـبر 14 قـرناً وسُـقِـيَـتْ من عـرق جـبـينهم ، وعـمَّـروها وساهـموا في بناء حـضارتها طـيلة فـترة مسيحـيّـتهم 2000 سنة وقـبلها بآلاف السنين أيضاً ، وهم أصلاء البلد وبناة حـضاراته . إنَّ مشكلة الإخـوة المسلمين مع الإنسان المسيحي ليست في عـدم إستيعابهم لمفـهوم لاهـوتية المسيح فـحـسبْ ، وإنما تكمن أيضاً في المبادىء السامية التي ترتـقي بأخلاق الإنسان وسلوكه إلى مصافي ملائكة السماء ، والتي تـضـَـمَّـنـتـْـها عِـظة المسيح عـلى الجـبل كـدستور حـياة المسيحـيّـين وعـقـيدتهم ، إنها فعلاً مشكلة أمام الأسس الفـكـرية القاهـرة للحـرية والسالِبة لحـق الحـياة والمستـقاة من الكـتب الدينية للإخـوة المسلمين ، وإخـتلافهم العـميق في المفاهيمَ الإنسانية بـين تعاليمهما كالغـفـران والمسامحة والعـدل والمحـبة وحـق المرأة ، وغـرابة أوامـر إلههم والتي غــُـرِسَـتْ في أذهانهم ، فـصارت التربـية المسيحـية عائقاً أخلاقـياً في مسارات حـياتهم ، ورغم أنها لا تـخـصّهم وليسوا ملزمين عـليها ، إلاّ أنهم يرَون فـيها شبحاً وكابوساً يقـضّ مضاجعهم . إن الأخ المسلم الذي يستـغـرب من كـتاباتـنا هـذه وينـدهـش منها ، ليس هـو المقـصود بها لأنه متمـدّن عـصري عـقلاني يؤمن بالحـداثة وبعـيد عـن هـكـذا أفـكار شاذة ، إنما المقـصود بها هـو ذلك المسلم الذي لا يستـغـرب منها لأنه يعـرف أنّ ما نذكـره هـنا أمـرٌ واقـعيٌّ لا يمكن نكـرانه ، وقـد كان أحـدهم دمث الأخلاق صادق الأقـوال وبعـد أنْ وثِـقَ فيَّ قال لي : أستاذ ، إن الإرهابـيّـين هم المسلمون الحـقـيقـيّون لأنهم يطـبّـقـون ما ورد في القـرآن حـرفـياً دون الرجـوع إلى تـحـليل وتأويل ذلك إلى ظروف ومستوى المجـتمع القـبائلي الذي جاءت فـيه ، والذي قـد نـجـد لها مبرّراً في ذلك الوقـت ، دون أخـذ حـداثة وعـقلانية عـصرنا الحالي بنـظر الإعـتبار ، وأضاف قائلاً : نحـن لسنا مؤمنين اليوم بحـرفـيّة كل ما ورد فـيه ، لـذا فـلسنا مسلمين حـقـيقـيّـين بالمعـنى المطلوب . كـفى بنا تـجـنـُّـبُ قـول الحـق وحان الوقـت كي نـكـفَّ عـن اللـفّ والدوَران وإخـفاء الحـقـيقة ، لأنّ المسألة لم تـعُـد تـتـحَـمّل المجاملة بل الشفافـية والصراحة . نعـم ، يصعـب عـلى الإخـوة المسلمين موازنة وموازاة وصية المسيح ( أحِـبّوا أعـداءكم ) مثلاً في عِـظـته عـلى الجـبل ، مع ( أعِـدّوا للعـدو ما إستـطعـتم من قـوة ورباط الخـيل فـتــُرهِـبونه ) ، فالفكـرتان في صراع وعـلى طـرَفي نـقـيض بوضوح ، ولا شك أنّ النصر القـتالي والعـسكري التعـبَـوي لن يكـون من جانب المؤمن المُـحِـب المسالم الوديع والأعـزل مكـشوف الوجه ، بل سيكـون حـليف المجاهـد المسلح بأسلحة نارية وآلات حادة قاتلة والذي يمارس الإرهاب والعـنف سواءاً كان ملثــّماً أم لم يكن . وهاكم مثالاً آخـراً : الشهـيد لغـوياً هـو مَن يعـترف برؤية شيء أو يقـرّ بسماع خـبر ، أما دينياً فهـو عـند المسيحـيّـين ( كل مَن يشـهـد للمسيح وسلاحه كـلمة الله ، فـيُـقـتـَـل بسبب شهادته للمسيح دون أن يقاوم في سبـيل القـتل ، والحـب يملأ قـلبه طالباً الغـفران للقاتل ، وإمتيازه هـو أنه شاهـد للمسيح فـيرث ملكـوت السماوات ) ، أما عـند المسلمين فإن الشهـيد هـو ( كل مَن يَـقـتل غـيرَ المسلم في الوقـت الذي لا يقـبل الإسلام ديناً له ، بدم بارد مستـخـدماً أيّ سلاح متاح ثم ينـتحـر أو يُـقـتـَـل وقـلبه ممتلىء حـقـداً وضغـينة ، فـيقال له شـهـيد ويذهـب إلى الجـنة فـيتـعـشّى من رسول الإسلام ، بالإضافة إلى إمتيازات ومحـفـزات كـثيرة مشجـعة عـلى الإستـشهاد بإندفاع وحـماس ) ، وهـكـذا أمثلة أخـرى كالجهاد والصلاة وغـيرها ........ إنه إخـتلاف آيديولوجي واضح فِـكراً وتـطبـيقاً . هـذه هي المحـنة عـلى مسرح الشرق الأوسط ومصر وغـيرها من البلدان منـذ حـلَّ الدين الإسلامي فـيها بقـوة الجـيوش الخـيالة والراجـلة المسلحة بالرماح والسيوف سابقاً ، واليوم بالأسلحة الفـتاكة المتيسّـرة وبأساليـب وحـشية غابوية صعـبة الوصف . إنّ هـذه المشكـلة وعَـبر الزمن ، تـوارتْ عـن الأنـظار بعـضاً من الوقـت بصورة مقــَـنـَّعة أو مُـمَـوّهة ولكـنها بزغـتْ فـوق الأفـق لاحـقاً وتـقـدّمَـتْ اليوم كاشفة قـناعها عـلناً وبكل صلافة حـتى إنـتـشرتْ روائحها النـتـنة ولم تـعـد تـطاق ، والحـكـومات المسلمة المعـنية تـقـف متـفـرجة أو مستـنـكرة ظاهـرياً للحـفاظ عـلى ماء الوجه أمام الرأي العام العالمي دون أيّ إجـراء عـمليّ رادع يحـمي المسيحـيّـين سكان البلد الأصليّـين المسالمين العـزّل قـليلي العـدد ، الذين ليس من مبادئهم حـمل السلاح الناري بل سلاح سلام المسيح ، ولا يردّون الشر بالشر ! بل محـبة مُـبغـضيهم ومباركة لاعـنيهم . نعـم ، إنَّ الله لم يَخـلقْ إنساناً شِـرّيراً أياً كان موطنه ولونه ، ولكـن ما يُـلـَـقــَّـن به ويُـغـرَس في رأسه من تـعاليم وأهـواء البشر ( قـد ) لابل يجـعـله شِـرّيراً ، فـرْداً كان أم جـماعات . إنـنا نرى أنـفـسنا إزاء مشكـلة واسعة مترسّـخة منـتـشرة فـتاكة بجـموع من البشر المسيحي ، والكـيل قـد طـفح وغـمر وفـيَّـض الساحة تـحـت هـذه الأحـداث ، وأولويّة العلاج لن يكـون بالبحـث عـن خـرق قـماش لإمتـصاص الرطوبة النـتـنة وتـنشيف المكان ، وإنما يكـون بقـطع المجـرى الرئيسي الذي يأتي منه السيل ، أو تـغـيـير إتجاه جـريانه ليصبّ في خـزان مُهَـيأٍ لهذا الغـرض كي يُـعامَل مجـدَّداً ويُـحَـوَّل إلى سائل يصلح للإستـخـدام ، فالعِـبرة هي بمعالجة المنبع وليس المصب ، وهـكـذا لن يكـون الحـلّ أبداً بعـزل هـذا المكـوَّن المسيحي المسالم ، في بقعة المحافـظة المسيحـية أو الآمنة أو غـيرها ، ويُحـيط بها هـؤلاء الذئاب البشرية من كـل صَوب ليسيل لهم لعابهم أكـثر . إنّ نـقـطـتان إثـنـتان أساسيّـتان برزتا في هـذه المقدمة السريعة وهما : 1- الأصالة الجغـرافـية للمواطن المسيحي المسالم أمام المحـتل المجاهد المسلم . 2- الفكـر الإسلامي المهيمن المناقـض للمبادىء المسيحـية السامية وفي صراع معها . وهـنا حان الوقـت لنسأل : فهل تشكـل هاتان النقـطـتان مانعاً للعـيش المشترك يفـصل بـين المسيحـيّـين الأصلاء والمسلمين الدخلاء بعـد مرور أربعة عـشر قـرناً من الإحـتلال ؟ أم أنّـنا بحاجة إلى مراجعة وإعادة صياغة مفاهـيم عـقائـدية بعـقلانية العـصر وتـحديث تـفـسيرها بما يخـدم إنسانـنا الحاضر كي تصلح ليومنا هـذا ، عـنـدئـذ يمكن أن نـقـول أنّ هـناك حـل يعـمل عـلى تـطبـيع الأجـواء للشراكة الوطـنية بـينهما ؟
من يقف في صف كنّا وآغجان فأنه مشارك في تهميش وإستلاب حقوق الكلدان