ما الحل لغير المسلم أمام خيارات: إما الإسلام، وإما الجزية، وإما السيف ؟*«
في:04.01.2019 في 11:51 »
ما الحل لغير المسلم أمام خيارات: إما الإسلام، وإما الجزية، وإما السيف ؟*
د. روبين بيت شموئيلالآشوريون المسيحيونالآشوريون المسيحيون المعاصرون الذين يُعرفون اليوم بتسميات متعدّدة ومترادفة، مثل: السريان أو الكلدان أو الآراميين، هم مجموعة عرقية ساميّة ذات أصول إثنية واحدة . سكنت هذه المجموعة العرقية منذ زمن موغل في القدم، في بلاد النهرين، وينحدر أصلهم من حضارات قديمة في العالم القديم، أهمها: الأكّديّة والآشوريّة والبابليّة والآراميّة . لذا يؤمنون بأنهم أحفاد الآشوريين القدامى الذين بنوا حضارة عظيمة في الشرق الأوسط، والذين حكموا المنطقة قرابة ألفي عام، في إمبراطوريّة قويّة مترامية الأطراف، ضمّت شعوبًا مختلفة، وأسهمت بشكل كبير في الحضارة البشريّة. لكن نظامهم السياسي، سقط في العاصمتين: نينوى عام 612 ق.م، وبابل عام 539 ق.م. تباعًا، وفقد الآشوريون عنصر الوحدة السياسيّة فيما بينهم منذ ذلك الزمان. إلا أنّ تواصلهم التاريخي حتى اليوم والذي يمتد لأكثر من خمسة آلاف سنة، يفسّر عدم انقراضهم بسقوط نظامهم السّياسي، كما يزعم بعضهم، حيث احتفظ ورثتهم، أي آشوريو اليوم، بمعظم مقومات أجدادهم القوميّة من لغة، وعادات، وتقاليد، وتاريخ، وتراث، ومشاعر، وما إلى ذلك . وهنا نؤكد أنَّ الشعوب لا تسقط بسقوط أنظمتها السياسية، فكيف بشعب حضاري يمتلك كل الأدوات الفكرية، والثقافية، والاجتماعية، والدينية التي تعينه على التواصل في الحياة، والبقاء معطاءً فيها. وهل سقط العراق، وأنقرض الشعب العراقي، بسقوط نظامه السياسي في ربيع 2003 مثلاً ؟
ويُعَدُّ الآشوريون/ السريان من أقدم الشعوب في المنطقة، وفي العالم، التي اعتنقت المسيحيّة، منذ انتشارها في القرون الميلاديّة الأولى، فأسهموا في نشرها في الشرق كله، ثم في مناطق آسيا الوسطى، والهند، وحتى الصين . وكانت المسيحيّة الشرقية، قد وحَّدَت الشعوب النهرينيّة، وصهرتهم في بوتقة التسميّة السُّريانيّة، التي ترسّخت بانتشار المسيحية الشرقية ذاتها في سهول الانتماء وجبالها، إلى حد غدت لفظة السرياني تعني المسيحي. وأصبحت الكنيسة، مظلّتهم الروحيّة والعلمانيّة، وأعطوا عقيدتهم المسيحية الجديدة، عصارة فكرهم وحضارتهم . لكن وحدتهم المسيحية، بدأت تتمزق، إثر الانقسامات الكنسيّة التي حلّت بهم، في القرن الخامس الميلادي والتي أدّت إلى انشطار كنيستهم الرسوليّة المؤسّسة، إلى كنيستين رئيستين: شرقيّة ومشرقيّة، أو بصيغة أدق: كنيسة المشرق الغربية (كرسي أنطاكيا)، وكنيسة المشرق الشرقية (كرسي كوخي). ثم لاحقًا إلى كنائس متعدّدة، ما أدّى إلى تعدّد تسمياتهم (مثل السريان والكلدان والآراميين وغيرها)، وإنْ كانت تنتمي جميعها إلى أصلٍ قوميٍ واحدٍ، وتفضي إلى دلالة إثنية واحدة، كما نوهنا ، وكما يؤكد الباحث الاجتماعي د. عبد الله مرقس رابي في مؤلفه الأخير . وكان الصراع في المسيحية الشرقية بين مدرستين لاهوتيتين تتنافسان على زعامتها، متمثلة بكرسي أنطاكيا وكرسي الإسكندرية، وكان كرسي القسطنطينية جديدًا بالنسبة إلى هاتين المدرستين، وكان يكفي أن يميل إلى إحدى المدرستين لتتفوق على غريمتها. وهذا ما حصل فعلاً فانحاز كرسي القسطنطينية الجديد إلى كرسي أنطاكيا ضد كرسي الإسكندرية، فكان الصراع والانشقاق الذي ما زالت تعاني من تداعياته المسيحية، وبالأخص في الشرق الأوسط، إذ كان هذا الصراع السبب الرئيسي في تصدع جدار المسيحية في الشرق ما أدّى إلى تقويضها.
وتفاقم التمزق والإنقسام إثر النزاع السياسي المستميت بين الفرس المجوس والرومان على مناطق سكن الآشوريين/ السريان، فانقسموا إلى سريان بلاد فارس، أو سريان مشارقة عرفوا بالنساطرة عند خصومهم ، وسريان بلاد الرومان، أو سريان مغاربة عرفوا باليعاقبة عند الفئة الأخرى . وسرعان ما تبع هذا الانقسام، اختلافات لغوية في الخط واللفظ والإملاء أحيانًا، فانقسمت لغتهم أيضًا إلى لهجتين، تبعًا لجغرافية الإمبراطوريتين المتنازعتين على الأرض والسلطة: سريانية شرقيّة، وسريانيّة غربيّة . لكن استطاع الآشوريون بفكرهم النيّر وثقافتهم الواسعة وحضارتهم المجتمعية ـ وهم الشعب الصغير ـ ان يستمروا في العطاء الإنساني الثر الذي لم يبخل على أحد، وهم يتأرجحون بين نارين: نار الوافد العربي ونار المدافع الفارسي/ البيزنطي، ما مكّنهم عبر العصور من المحافظة على هويتهم القومية والدينية.
وكان دخول الآشوريين والبابليين والآراميين المسيحية مجتمعين، يدلل على أنهم كانوا منظمين ولهم قيادات يخططون لمستقبلهم كجماعات عرقية مغايرة لمحيطهم الفارسي والروماني والبيزنطي. ولم يكن بدافع نفي الماضي، بقدر ما كان يسعى إلى خلق مؤسسة جديدة، تحمي قيم ومظاهر هذا الماضي، من حيث اللغة، والعادات، والتقاليد، وما شابه ذلك، وهذا يفسّر إدخالهم الكثير من مفاهيم الحضارة البابلية ـ الآشورية ورموزها إلى الدين الجديد.
كما يٌعَدّ السريان الآشوريون من أوائل شعوب المنطقة الذين اهتموا بالتاريخ والتوثيق، فهم ـ مثلاُ ـ أكثر الشعوب امتلاكًا لألواح الطين الكتابيّة، والعقود التجاريّة، والمخطوطات الدينيّة والأدبية للمسيحيّة الشرقيّة، والنقوش وشواهد القبور، والمصادر القديمة بعامةٍ . وتتوافر تحت أيدينا اليوم المئات بل الآلاف من المدوّنات التاريخيّة الطينية التي خلّفها أجدادهم الآشوريون منذ أزمان سحيقة، والتي بدأ العالم المتحضر ينهل من معلوماتها الشيء الكثير، ليغني حضارته، وينشرها في عالم اليوم. وبعد ظهور المسيحيّة واكب السريان الآشوريون أحداثها، ودوّنوا أهم منعطفاتها في مخطوطات نادرة، لتصبح اليوم المعين الذي لا ينضب لمعرفة ما تركه لنا المسيحيون الأوائل . إذ أصبحت المصادر التاريخيّة السريانيّة ينبوعًا أساسيًا لدارسي تاريخ المنطقة، وتاريخ شعوبها، ولغاتها، وآدابها، ومن أهم المدوّنات السريانيّة في حقل التاريخ وتسلسل أحداثه، نذكر بعضًا منها: تاريخ مشيخا زخا ، تاريخ يشوع العمودي (القرن السادس)، وتـاريخ يوحـنا الأفسسي ( 507 ـ 578 م)، وتاريخ الرهاوي المجهول (633- 708)، وتاريخ ديونيسيوس التلمحري (815- 845)، وتاريخ إيليا برشينايا (975- 1046)، وتاريخ ميخائيل الكبير (1126 – 1199)، وتاريخ ابن العبري (1226 – 1286)، وفهرس عبديشوع الصوباوي (+ 1318)، وغيرها.
وكان الجدال اللاهوتي الذي دب في المسيحية الشرقية وانقسامها من جهة، والاضطهاد المستمر الذي كان يجيء من المسيحية البيزنطية (الخلقيدونية)، ومن الفرس المجوس، من جهة ثانية، كان كما يقول محمد مجيد بلال: " فرصة سانحة لظهور الإسلام في الجزيرة العربية في ذلك العصر" . وكان السريان عونًا لأي قوة يمكن أن تخلّصهم من نير الاضطهاد المسيحي الخلقيدوني ، والفارسي المجوسي، لذلك اطلقوا على الخليفة عمر بن الخطاب لقب فاروق (ܦܵܪܘܿܩܵܐ)، أي المخلص بالسريانية . وأظهر المسلمون وكأنهم صورة من الغضب الإلهي التي اتخذها الرب لتنفيذ عقابه على الروم البيزنطيين الذين كانوا يظلمون السريان المختلفين عنهم مذهبيًا، لذلك اكتست القصص التي تناولتهم صبغة القدرة، وغلب على بعضها منطق الخوارق .
وبعد ظهور الإسلام، تراجع دور ثقافتهم ولغتهم لصالح اللغة العربيّة الناهضة، وأسهم الآشوريون السريان، وإلى حد كبير، في ازدهار الدولة العربيّة الإسلاميّة، وخاصّة في عهدي الدولتين الأمويّة والعباسيّة، حيث تبوؤوا مناصب بارزة في المجتمع والبلاط . وقد أدرك الإسلام الوافد، الفرق الكبير بينه وبين الحضارات التي وطأت أقدامه بين بناتها، وتيقن من صعوبة بناء الحياة والتمدن من دون مساهمة أهل الأرض والحضارة والثقافة والعطاء. غير أن المجازر التي حلَّت بهم، منذ الغزو المغولي في القرن الثالث عشر مرورًا بمذابح الأمراء الفرس والكرد، ثم الاضطّهادات اللاحقة الصادرة بفرمانات (أوامر حكومية) تركيا العثمانيّة، كانت كفيلةً بانحدار عددهم من الأكثريّة إلى الأقليّة . إذ قضت المذابح العثمانيّة، وبمعاونة بعض القبائل الكرديّة، عشية الحرب العالمية الأولى، على نصف ما تبقى منهم تقريبًا. كما أنّ المؤامرات التي نسجها الحلفاء الكبار، تجاه حليفهم الأصغر ، أَثناء الحرب وبعدها، والتي غيّرت خارطة العالم بأسره، سبّبت فقدان ديمغرافية هذا الشعب المظلوم، من جهة جيرانه، ومن جهات الدوّل العظمى، على حَدّ سواء.
وكانت نتيجة هذه الاضطهادات المتعدّدة، كما تتجلى اليوم بابشع صورها، التهجير والهجرة داخل الوطن وفي بلاد الانتشار، لتقضي ـ أو تكاد ـ على آمال بقائهم ووجودهم ومستقبلهم في مواطنهم الأصلية القديمة. وعليه، كان على أصحاب الضمير الإنساني الحي، المعنيين ببقاء المسيحية في الشرق وعدم زوالها، أو موتها، أن يتحلوا بالشجاعة والإقدام في إظهار الاضطهادات وتداعياتها المؤلمة، أيَا كان نوعها، وحجمها، وكشفها للعلن، بغية إلغائها. لأن التستر عليها، وإخفاءها، ومجاملة الحكومات المسؤولة عنها كما جرت العادة، يُديمُها، وربما يجعلها مضاعفًا، كما يحصل اليوم. ـفالفكر العربي والإسلامي الذي أسهم المسيحيون في نهوضه وازدهاره وبلورته بات يهدّد الوجود المسيحي، وبخاصّة بالنسبة إلى الجماعات المسيحية التي أقدمت على ترك لغتها الأم السريانية، وتبنت اللغة العربية في حياتها الروحيّة والماديّة. وبالرغم من الاضطهاد، والتهجير، والذمية، إلا أن عددًا من المسيحيين بقيّ في الشرق يصارع الصعاب، ما يفسّر قوة ايمانهم، وثبات عقيدتهم المسيحية السمحاء، وإلا كيف يفسّر تعلقهم بدينهم منذ ألفي سنة إلى حد الشهادة الدائمة في سبيله! وبعد هذه الإضطهادات المؤلمة التي جاءت من الجار المسلم، مغوليًا كان، أم تركيًا، أم فارسيًا، أم عربيًا، أم كرديًا، نسأل العالم المتحضر شرقًا وغربًا: من هو المسؤول عن خلو الموصل وسهل نينوى ولأول مرة في التاريخ من سكّانه المسيحيين الأصليين ؟
علمًا أن التاريخ يسرد، كانت الموصل ـ على سبيل المثال ـ قبل مجيء الإسلام إلى المنطقة، " قليلة العمران، ليس فيها إلا محلتان، يسكن إحداها المجوس من الفرس والأخرى يسكنها المسيحيون" ، ويَنقُل السمعاني عن أبي الفرج أن أغلبَ سكّانِ أراضي نينوى كانوا نصارى . فمع وصول العرب إلى العراق في العام 637 م، كان المسيحيون يمثلون الغالبية من سكّان بلاد وادي الرافدين الأصليين، وكانوا موجودين في جميع نواحي البلاد ويمثلون جميع شرائح المجتمع، ووقفوا مع العرب المسلمين في حربهم ضد الفرس، وتعاطفوا معهم . وكان العرب المسيحيون الشاميون في حلب وحمص ودمشق (الغساسنة)، والعراقيون في مدينة الحضر وتكريت والحيرة والكوفة (المناذرة)، يخوضون الحروب بالوكالة عن الإمبراطوريتين البيزنطيّة والساسانيّة.
ويذكر السائح الإيطالي ماركو بولو (1254 – 1323)، في سنة 1272 م، عن الموصل: " الموصل مملكة عظيمة جدًا، سكّانها متعددة الأجناس والشعوب، بوسعنا تقسيمهم هكذا: قسم منهم يدينون بالإسلام (محمديون) وهم العرب، وآخرون يدينون بالنصرانية هم النساطرة واليعاقبة، ليكن معلومًا لديكم بأن جميع مسيحيي هذه البلاد بالرغم من أنهم كيرون جدًا، هم كلّهم من المسيحيين اليعاقبة أو النساطرة، لا كما يريد بابا روما " . ويقول الرحالة الألماني كارستن نيبور: " عندمت فتح المسلمون هذه المدينة (ويقصد الموصل) قبل ألف عام (من 1766)، وجدوا فيها مئتي كنيسة وعددًا من الكنيست اليهودية، والنصارى يجادلون في هذا العدد ويدعون بأنه كان في الموصل أكثر من أربعمائة كنيسة " . ويقدّر " عدد النصارى بنحو (1200) بيت وحوالى ربع هذا العدد من النساطرة والكلدان غير الضالين، والبقية يعاقبة " . ويقول أيضًا: " كان في كركوك في آذار 1766، نحو (40) كلدانيًا ونسطوريًا ينتمون إلى كنيسة روما، وفي خلال حديثي معهم أظهروا لي تذمرهم وامتعاضهم من بقية مسيحيي المشرق لتمسكهم بالخرافات القديمة وعدم اعتقادهم أن البابا خليفة المسيح في الأرض، وقد وجدت جميع نصارى بلاد المشرق متفاهمين بعضهم مع بعض، إلا انهم لا يميلون إلى النصارى التابعين للكنيسة الرومية الكاثوليكية، كذلك رأيت أن الذين اهتدوا على أيدي البعثات التبشيرية أعداء ألداء لمن لم يتبعهم من اخوانهم في المذهب السابق فبقي على عقيدته " .
وتفاقمت الهجرة إلى بلدان المعمورة، بحثًا عن الحياة الآمنة، وتخلّصًا من الاضطهادات المتنوعة، بعد حرب إسقاط نظام صدّام حسين، والانفلات الأمني الذي تبعها، والقتل على الهويّة الذي صاحَبَها. إذ هجّرت أعداد كبيرة من مسيحيي العراق، فأصبح نصفهم في الداخل، ونصفهم في الخارج، لا بل غدا عددهم في الخارج، يفوق عددهم في الداخل. الأمر الذي أدّى إلى احداث تغيير في طبيعة التركيب القومي للأراضي الآشورية المسيحية إثر نزوحهم منها، بعد أن أجبروا على تركها برعب الذبح الوحشي الوافد من الفكر التكفيري الذي غمر منطقتنا بالتعصب الأعمى، والبداوة المتخلفة التي لا تستقيم معها الحياة المتحضرة. فظلّت ذاكرة الدماء تثقل الرأس المسيحي في إمكانية ضمان وجوده في ولاية الحياة من عدمها، لأن الأقوى دينيًا، وسياسيًا، وإقتصاديًا يعمل دائمًا للسيطرة، والسيطرة استبداد، ونحر حرّيات .
لذا يجب الاقرار، بأنّ عدد المسيحيين يتناقص بشكل خطير ينذر بزوالهم من الجغرافيّة القوميّة للشرق الأوسط، إذا لم يحصل تطوّر في ذهنية الحاكم الشرقأوسطي. وإذ لم يسع الحكام والمعنيون بشؤون السياسة والإدارة إلى أيقاف تدهور الثقافة في المنطقة، إذ إنّ تدهور الثقافة يؤدي إلى تدهور المجتمع والوطن، على عكس تدهور السياسة، الذي يعالج بمجرد تغيير النظام السياسي القائم بغيره، والعلاج في حال تدهور الثقافة، سيكون صعبًا وطويل الأمد. والمعروف عن المسيحيين في المجتمعات الشرقية بعامة، أنهم ينشدون الثقافة التي تهدف إلى بناء الشخصية الإنسانية في مناخ المحبة والقيم العليا، ويسعون إلى ترسيخها ونشرها. ويعوون أن الإسلام المتطرف يهددهم ثقافيًا، ويحاول قلع جذورهم جغرافيًا، لأن الإسلام كما يقول أدونيس: " الإسلام سلطة ومال، وليس ثقافة " . لذا كانت مسؤولية من تبقى من مسيحيي الشرق أن ينبَّهوا أجيالهم إلى أهمية الإرتباط الوجداني والكياني بالأرض، والطبيعة، والمجتمع، كي لا تستمر الهجرة جرحًا ينزفُ.
إذًا، في غياب الحماية الإنسانية للأقليات العرقية من قبل الحكومات والمجتمعات في شرقنا، فإن الهجرة وترك أرض الأباء والأجداد سيكون الخيار المجبَر عليه، فالمضطَهد أيًا كان جنسه ولونه ومكانه " يبحث دائمًا عن الحرية، ويؤسس كل شيء عليها " . لأن الهجرة في هذه البقعة الساخنة من العالم، هي نتيجة لسبب، وسبب الهجرة والتهجير هنا، هو الإسلام السياسي بكل تجلياته وتمظهراته في الضغوطات الاجتماعية والإقتصادية والسياسية، والتي لم ينجُ منها حتى الإسلام المعتدل.
القبائل العربية المسيحيةبدءاً نقول: إن التبشير بالمسيحية لدى القبائل العربيّة، تم على يد كنائس المشرق في بلاد الرافدين التي تعتمد اللغة السريانيّة، وكنائس بلاد الروم التي تعتمد اللغة اليونانيّة (كنائس الروم)، وبعضها اللغة السريانية (الغربيّة)، بالاضافة إلى أثر كنائس الحبشة أيضًا . ومن هنا نجد أن العرب الذين دخلوا المسيحيّة، لم يؤسّسوا كنيسة عربيّة، بالرغم من وجود أسقفيات عربيّة، لأن القبائل العربيّة التي تنصّرت، كانت تتلى صلواتها بالسريانيّة في الجزيرة العربيّة واليمن. بمعنى أنهم لم يعتمدوا اللغة العربيّة كلغة طقسيّة خاصّة بهم، لأن المسيحيّة دخلت إليهم بوساطة اللغة السريانيّة التي كانت لغة الطقوس الدينيّة لكافة الكنائس الشرقيّة . فلم نرَ كتابًا طقسيًا بغير السريانيّة إلى اليوم، هذا يعني أن المسيحيين غير الآشوريين / السريان، مثل نساطرة الحيرة والكوفة العرب (حصرًا)، كانوا يستخدمون السريانيّة في كنائسهم، وطقوسهم الدينيّة المسيحيّة، وان كانوا يتكلّمون بلهجة أو لهجات عربيّة محليّة. فقد كان ـ على سبيل المثال ـ جزء من قبيلة طيء اليمانية الأصل يعتنق المسيحية، ومع ظهور الإسلام هاجر أفراد منها إلى أنطاكيا، وكانت هذه القبيلة الكبيرة التي انتشرت في منطقة شمّر شرقي الجزيرة العربية على صلة مستمرة بالآشوريين المقيمين هناك، وكانوا يسمونهم بلغتهم السريانية الشرقية (طيّايا) وبالغربية ( طيّويو) . وهذه القبائل العربية المسيحية، أيدت أبناء جلدتهم العرب المسلمين الذين يمتون إليها بصلة الدم، واللغة، والتراث، وخاصة قبائل بني تغلب، وبني عقيل، وبني تنوخ، وبني ربيعة في شمال العراق وغربه، وحاربت جنبًا إلى جنب مع العرب المسلمين .
وكتب الرحالة الإيطالي ماركو بولو (1254 ـ 1323) عند مروره في منطقة الجزيرة العربية متعجبًا أن هناك أسقفًا وجالية لا تتبع البابا في روما ، وأن جميع الذين اعتنقوا المسيحية سواء أكانوا من العرب أو الفرس أو في الهند أو في الصين يؤدّون الطقوس الدينيّة بالسريانيّة بغض النظر عن الجنسيّة والقوميّة . وهذا ما يقود إلى التساؤل عن سبب عدم إعتماد اللغة العربيّة في كنائسهم، فهل هو بسبب هيمنة الكنائس السريانيّة واليونانيّة؟ أو بسبب أن اللغة العربيّة لم تكن قد ثبتت كلغة كتابة حين دخل العرب المسيحيّة ؟ ولكن لماذا استمرت الحال حتى بعد انتشار الكتابة العربيّة التي كان للمسيحيين قصب السبق في نشأتها؟
ظلّ المسيحيون العرب، ينهلون من الثقافة السريانيّة واليونانيّة، إلى الحد الذي جعل بعضهم يتحول إلى السريانيّة، أي تسرينوا على حد وصف الأب قنواتي . لقد تأثر شعراء وخطباء مرحلة قبل الإسلام، من المسيحيين، بمن فيهم أكثر شعراء الملعقات بالمسيحيّة، بدليل احتواء قصائدهم على رموز مسيحيّة، ووصف لدور عبادتهم من كنائس، وأديرة، ورهبان، مثل: أمية بن أبي الصلت، وأمرىء القيس، والنابغة الذبياني، وعمروا بن كلثوم وآخرين. ونذكر ثلاثة من فحول الشعر العربي لا مجال للشك في مسيحيتهم: الأوّل قُسّ بن ساعدة الإيادي، أسقف نجران الذي دعي حكيم العرب وخطيبها وشاعرها ، وورقة بن نوفل بن أسد (توفي حوالى سنة 611 م) أسقف مكّة ، وعدي بن زيد، وزير النعمان، ملك المناذرة الأخير في العراق، وزوج ابنته هند، وعثمان بن الحويرث بن أسد من قريش .
إلا أن الدور الأكبر الذي برز فيه العرب المسيحيون، ويمكن عدّه إنجازًا تاريخيًا، ومفصلاً بارزًا في التاريخ العربي، هو إختراع الحرف العربي الحديث، الذي نقل اللغة العربيّة نقلة نوعيّة من لغة محكيّة إلى لغة كتابيّة، ففتح أمام العرب أفقًا جديدًا لجعل اللغة العربيّة لغة رائدة . إذ بدأ المسيحيون العرب في شمال الجزيرة العربيّة يستعملون حرفًا جديدًا اصطنعوه من الحرف السرياني الآرامي، الذي كان سائدًا لدى النبط، وهم حلقة الوصل بين العرب والسريان. وقد نسب الحرف الجديد الذي سُمي " الجزم " إلى ثلاثة رجال مسيحيين من " بولان " من قبيلة طي، يسكنون " الأنبار " في العراق، وهم : " مرامر بن مرّة، وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة ". فقد وضع هؤلاء الخط الجديد، وقاسوا هجاء العربيّة على هجاء السريانيّة، وعلّموه أهل الأنبار وانتقل إلى الحيرة، وبعدها إلى داخل الجزيرة العربيّة، وتم تطويره في الكوفة بعد الإسلام. فهو خط وحرف وكتابة من صنع المسيحيين النساطرة. وقد أكّد علماء مستشرقون هذا الرأي ومنهم المستشرق " دي سي " الذي أثبت أن فن الكتابة العربيّة هو من صنع مسيحيي العراق .
دخلت المسيحية الجزيرة العربية منذ القرن الثالث أو قبل ذلك وظلت حتى القرن الرابع عشر، وأنشأت هناك أبرشيات وأسقفيات عديدة، وخاصّة على الساحل الغربي للخليج، والذي أطلق عليه تاريخيًا (بيت قطرايي : القطر البحري). وأنجبت أبرشية القطر البحري، شأنها شأن كل الأبرشيات الممتدّة على خارطة كنيسة المشرق، آباء كتبة مجيدين، وفلاسفة مفكرين، وشعراء مبدعين، كتبوا بـ(السريانية)، فنجد هناك آثارًا للمسيحية قبل مجيْ الإسلام . لاقت بشارة الإنجيل تقبلاً منقطع النظير في كل بلدان شبه جزيرة العرب، وتغلغت في أعماقها وفي مناطقها الحدودية، ويشهد على ذلك المؤرخون وكتاب السيّر، يقول ابن قتيبة: إن النصرانية كانت في ربيعة وغسّان وبعض بني قضاعة . ويقر اليعقوبي بتنصر كل من تميم وربيعة وبني تغلب وطي ومذحج وبهراء وسليح وتنوح ولخم . ويقول الجاحظ : كانت النصرانية قد وجدت سبيلها بين تغلب، وشيبان، وعبد القيس، وقضاعة، وسليح، والعباد، وتنوخ، ولخم، وعاملة، وجذام، وكثيّر بن بلحارث بن كعب .
ولبيان الواقع المسيحي في الجزيرة العربية، نستعرض بإيجاز أسماء بعض الأبرشيات ورجال الدين المسيحيين المسؤولين عنها :
في بلاد الحجاز، كان يوجد في مدينة (يثرب) مطرانٌ كنيته مار بولس، جنسه من كرما (كركوك الحالية)، وتحت يده أسقفان: الأوّل اسمه مار موسى وجنسه من (سعرد)، والثاني اسمه مار ابراهيم وجنسه من (خراسان) في بلاد العجم. وكان يوجد تحت يدهم (80) قسًا، و(200) شماسًا، وكان لهم ثلاث كنائس: الأولى على اسم سيدنا إبراهيم الخليل، والثانية على اسم موسى كليم الله، والثالثة على اسم سيدنا أيوب الصديق، وعدد المؤمنين كان (4300) بيتًا، جميهم نساطرة خاضعين لجاثليق الشرق الذي مقر كرسيه في المدائن، وكان ذلك في سنة 1240 م. ثم قويت الأمة الإسلاميّة وضبطت المعابد، يعني الكنائس وقتلت خلقًا كثيرًا بحد السيف، وجزء منهم انحاز إلى الإسلام.
ومدينة (عكاظ) من أعمال الحجاز، كان يوجد فيها أسقف كنيته مار شليطا من (ماردين) وكان تحت يده (8) قسًا، و(30) شماسًا، وكان له كنيسة واحدة على اسم مار بطرس وبولس، وكان عدد المؤمين (1800) بيتًا، جميعهم نساطرة، وكان ذلك في سنة 1240 م، أغلبهم قُتلوا بحد السيف وجزء منهم دخلوا الإسلام.
وفي مدينة (عدن) من بلاد الحجاز، كان يوجد فيها أسقف واحد اسمه مار ميلو، جنسه من البصرة، وكان تحت يده (12) قسًا، و(40) شماسًا، وكان لهم كنيسة واحدة على اسم مار يوسف (خطيب العذراء)، وعدد المؤمنين كان (1300) بيتًا، وجميعهم كانوا نساطرة، وهؤلاء أيضًا أصابهم مثل ما أصاب مدينة (عكاظ)، وكان ذلك في سنة 1250 م.
أما مكة فكانت المسيحية أصيلة وعريقة فيها ، وكان لهذه المدينة أهمية كبيرة بين سكان الجزيرة العربيّة كلها لوجود الكعبة فيها، هذا المركز الديني والتجاري الذي كان يستقطب القبائل من مختلف أرجاء الجزيرة، ومن ضمنها القبائل المسيحية. فقد كان هناك شعراء مسيحيون مثل عدي بن زيد والأعشى، كانوا يقسمون أمام الحجر الأسود برب الكعبة وبالصليب في آن واحد.
الحلول لبقاء المسيحية في الشرق: إننا أمام ثلاثة حلول ـ حسب رأينا ــ الحل الأول: يكمن في بناء دولة القانون والمواطنة، التي ترتكز على الديمقراطية، واحترام الآخر المختلف، والعدالة الاجتماعية، لأن من يحمي المسيحية في المشرق العربي ذو الغالبية المسلمة هو القانون وحده. والقانون بعامة، غائب عن ثقافة الشرق الذي دأب حسب ثقافته الموروثة، أن يصف الغرب خطأً بـ (الغرب المسيحي)، لأن ثقافة الغرب الوافدة إلى الشرق، هي ثقافة مسيحية حسب معتقداته الموروثة. والشرق هو مستهلك للفكر الغربي وليس خلاق، ونظرة بسيطة إلى هيمنة الغرب وسيطرته التامة على عالم الفضاء، وامتلاكه لكل عناصر الثورة المعلوماتية، وآليات انتاج المعرفة، تغنينا عن الاسهاب في هذا الموضوع. والإسلام السياسي، يعد الديمقراطية والعلمانية من نتاج الغرب (المسيحي حسبه)، لذلك يمقتهما، ولا يستسيغهما، وينأى عن تطبيقهما، لأنهما من فكر المسيحية الغربية وثقافتها كما أسلفنا. فالشرقي يأخذ المنجز الحضاري المسيحي، لكن يرفض العقل المسيحي الذي ينتج هذا المنجز ويديمه، والذي يطوّره باستمرار،. وبهذا الصدد يقول أدونيس في معرض تعليقه على الشخصية العربية على صعيد التطور الحضاري، وموقفها من الحداثة: " إن شخصية العربي في منظور التطور الحضاري، شأن ثقافته، فهو يأخذ المنجزات الحضارية الحديثة، لكنه يرفض المبدأ العقلي الذي أبدعها، والحداثة الحقيقة هي في الابداع لا في المنجزات بذاتها " . علمًا أن الغرب ليس (مسيحيًا) كما يزعم الشرق، وحسب مفهومه ورؤيته، بل هو مصطلح جغرافي مدني أسّس للدولة المدنية التي تؤمن بحرية الأديان، بدليل تمتع المسلمين في الغرب (المسيحي)، بكامل حقوقهم الإنسانية، دينية كانت أم غيرها. والدولة المدنية أو العلمانية ، التي ترتكز على القانون، هي التي تؤسس لنهضة أي بلد: ثقافيًا، واجتماعيًا، واقتصاديًا.
ودولة القانون والمواطنة المنشودة، سوف تحمي المسيحيين من الطائفية التي بدأت بالظهور في المنطقة مجددًا بعد الإصلاح العثماني، والتدخل الأوروبي، والنشاط القومي لشعوب المنطقة. حيث تقاطعت هذه المتغيرات الثلاثة في سعي لانتاج المساواة، أو الحكم الجماعي (ولا نقول الديمقراطية)، والسعي إلى خلق الدول العلمانية إسوة بالغرب (المسيحي). ومنذ ذلك الحين غدا المسيحيون واجهة لتحديث الأنظمة (العثمانية والفارسية) في الأمس، والعربية (الشيعية والسنية) في اليوم، والأطار اللمّاع الذي ترتكز عليه الأنظمة الإسلامية، لتحسين صورتها في قضية حقوق الإنسان. ومع ذلك، فإن الشرق ما زال يخفق في التحديث، والتطوير، والعلمنة، وفي حقوق الإنسان، طالما كان العنف الديني والطائفي، يمثل انتصارًا للتقليد أو التراث. فثقافة الشرق هي ثقافة روحية دينية النشأة والأصل، وليست ثقافة مادية تؤمن بالمنطق والعلم كما هو الحال في ثقافة الغرب. إذ يتشبث الشرقي بالثقافة السائدة (النص المقدس)، ويعتقد أن كل خارج عن ثقافته السائدة، هو تهديد له، ولثقافته فيكون موقفه من هذا الجديد غير السائد وغير المعلوم عنيفًا، ومن هنا تشكّل العنف، وعدم قبول الآخر المختلف، وبرزا في ثقافة الشرق الذي يمثله اليوم الجماعات الإسلامية المتطرفة.
يقول د. البروفيسور ربيعة أبي فاضل ، ما يأتي:
" الفكر العلماني المنفتح هو الطريق الوحيد إلى حماية هذا الشرق من العواصف الدموية المتطرفة الآتية من مستنقعات الغرائز، وقبائل التكفير ".
وفي هذا الصدد نقول: إن في شرقنا تنوع بشري ملحوظ: إثني وديني وطائفي وثقافي، وإن لم تكن ثمة إدارة ناجحة لطمأنة ومعالجة مشكلة التنوع بالطرق القانونية والديمقراطية والمدنية، فإن التوزيع الجغرافي للمسؤوليات، والإدارات الذاتية بكل عناوينها، يكون هو البديل الأقرب إلى الحل الأمثل، حيث يأخذ الكل حقه. فالشرق، لا يقبل الديمقراطية والعلمانية لأنهما من نتاج الغرب كما تأصل في ذهنه، وبالتالي لا يقبل القانون الذي يعارض أو يخالف الشريعة الإسلامية المهيمنة على هذا الشرق، لأن قبول التنوع ليس من ثقافته كما يؤكد الشاعر أدونيس.
فإن لم يفلح الشرق في تأسيس دولة القانون والمواطنة، فإن البديل الثاني يكون، دولة تسلطية دكتاتورية يقودها طغاة، ومتهورون وسياسيو الجيب، طالما كانت مجتمعاتنا الشرقية، أو تربة منطقتنا صالحة لإنتاج الطغاة بكل جبروتهم. فالشرق مهووس بتحويل الحكام إلى الطغاة، لتأمين السيطرة والنفوذ، وضمان الحريات العامة حسب رؤية الطغاة أو السلاطين ومزاجهم. فالدولة الدكتاتورية قادرة على حماية من تريد، وقمع من تريد، لأنها تفرض الحماية بالقوة، والواقع يشهد أنه وحده (النظام الإستبدادي) يستطيع تطبيق وتنفيذ فكرة الحماية في غياب القانون. وساسة الدولة التسلطية، قادرون على محو ما قبلهم بجرة قلم، ففي العراق الحديث مثلاً، بدّل السياسيون العراقيون، خلال خمسين سنة الأخيرة، علم العراق أكثر من خمس مرّات، وكذلك الدستور، والنشيد الوطني. ولا أرى ضرورة في الإسهاب في هذا البديل أو الحل الدكتاتوري، لأننا إختبرناه جيدًا في العراق، مع إدراكنا أن الأنظمة ـ بكل توصيفاتها ـ لا تحمي الشعوب المستضعفة على طول الخط، لأنها زائلة في يوم ما.
والحل الثالث يكمن في طلب الحماية الدولية من المؤسسات العالمية المهتمة بحقوق الإنسان وكرامته. والحماية الإنسانية للأقليات تأتي من خلال تمكين الأقليات من العيش الآمن غير المهدد من الجار غير المؤتمن على مفهوم الجيرة والجوار، ما يؤمّن بقاء هذه الأقليات في مناطقها التاريخية المعروفة بهويتها الثقافية واللغوية والدينية والحضارية. لأن الأرض من دون وريثها الأصيل، أو صاحبها الأصلي، تكون سائبة ومشاعة لكل طامع أو دخيل، والإنسان من دون أرضه مشروع لاجىء دائم برسم الهجرة في كل حين . وكثيرًا ما أقف أمام وصف جيراننا لنا، بأننا أبناء الأرض الأصلاء، مصححًا أياه بأننا أصحاب الأرض الأصليين وليس أبناءها فحسب. والمصير المسيحي المرئي، والمستقبل المجهول، يبرران الحماية الدولية في سهل نينوى خصوصًا، وتسوّغان ضرورته الإنسانية أولاً، والقومية ثانيًا، والدينية ثالثًا.
لذا يطالب الكثيرون من أبناء الأقليات العراقية غير المسلمة بالحماية الدولية شرطًا رئيسًا للعودة إلى مناطقهم التاريخية وبلداتهم التي هجّروا منها في سهل نينوى، والموصل، وسنجار وغيرها. على أن ترص هذه الأقليات القومية والدينية غير المسلمة، صفوفها، وتوحّد خطابها السياسي، رافعة شعارًا سياسيًا أوحدًا:" لا عودة إلى الديار والمساكن إلا بفرض الحماية الدولية عليها "، وبخاصة بعد أن أفرزت تداعيات سيطرة داعش وحواضنها على مناطق شاسعة من العراق، حقيقة جيوسياسية لا يمكن التغاضي عنها في أن دولتنا العراقية الجديدة، وإقليمنا الفتي، وجيراننا المسلمين، غير قادرين على حماية مناطقنا المتنازع عليها بينهم، لأنهم ببساطة متناهية غير قادرين على حماية أنفسهم بدليل استنجادهم بأميركا وغيرها لتخليصهم من داعش وشرّها.
ومبدأ الدفاع عن النفس، يبرر منطق الجغرافية : اذا لم تكن قادرًا على حماية نفسك، لا تجد من يكون مستعدًا للدفاع عنك، من دون أن ينتزع منك ضريبة الدفاع. إنَّ الحماية الدولية وما يترشح منها، كفيلة بانتقال مسيحيي العراق من حالة عدم القدرة على مقاومة قوى الظلام، إلى ترسيخ قوتهم القومية والوطنية التي ترتكز على طاقاتهم الثقافية والفكرية والحضارية. بحيث تمكّنهم مع بقية شركائهم في الأرض من أخذ زمام مصيرهم المشترك بيدهم، والعيش معًا في أمان وسلام وازدهار. وهنا يجب استثمار نظرية الضغط الجماهيري وممارسة كل انواع الضغوط على الساحة الدولية حيثما يتواجد أبناء وأحفاد نينوى العظيمة في بلاد الانتشار حمايةً للصامدين في الوطن الأبدي.
إنَّ الشعوب الصغيرة والديمقراطية مثلنا ، تكون مسالمة وتكره العنف على العموم، ولا تملك الشعوب المحكومة في ذاتها القدرة على معرفة ما هو خير لها ، وبتوافر الحماية الدوليّة سوف تنتقل من وضع الشعوب المستضعفة إلى الشعوب التي لا يفكر احدٌ بالتجاوز والتطاول والاعتداء عليها. مثلما حصل للأخوة الكرد الذين تمتعوا بالحماية الدولية منذ مطلع عام 1991 ، وكل النتائج المتحققة اليوم في إقليم كردستان العراق من أمان واستقرار ملحوظ، واستثمار مالي، ورخاء اقتصادي، وقوة سياسية .. الخ، هي من جرّاء الحماية الدولية وثمارها. ولولا الحماية الدولية لكردستان العراق، ربما كان الشعب الكردي، المسلم السني بمعظمه، في غير وضعه اليوم. وهكذا بفرض المنطقة الآمنة، ستزول وإلى الأبد، عادة الانحناء والخنوع والخضوع التي اكتسبتها الأقليات غير المسلمة طوال قرون من الظلم والاضطهاد والدماء، فلنا كل الحق الإنساني في العيش بأمان وسلام في أرضنا وأملاكنا التي ورثناها من أجدادنا منذ أزمنة سحيقة تسبق مسيحيتنا بقرون.
ونقول بكل محبة: إذا كان من يسعى إلى تغيير الطبيعة الديموغرافية في سهل نينوى عن قصد وتصميم، ولمآرب خارجة عن طموح أبنائه ومستقبلهم، فإن من حقنا، لا بل من واجبنا أن نتصدى له بكل الوسائل القانونية المتاحة لديمومة وجودنا، ومساعدتنا في البقاء، لنواصل رسالتنا الإنسانية التي بدأناها منذ فجر الكتابة والتدوين.
ونؤكد: أنّ أرضنَا هي هويتنُا، وأنّ العنصر الأهم في تشكيل الهوية العرقية، هو ارتباطها بالأرض ارتباطًا وثيقًا، بالإضافة إلى العناصر الأخرى كاللغة، والإنتماء، والإرث الثقافي، والتقاليد، وغيرها. والإنسان هو أبن الأرض، لذا فإننا نوّد أن نبقى في أرضنا، وجودًا أصيلاً مميزاً، ونرفض أن نصبح غرباء في وطن بذل أجدادنا وآباؤنا الدمَ والعرق في سبيل تشكيله، وبناء حضارته، وجعل منجزه الفكري والأدبي متاحًا لكل شعوب المعمورة. كلما كان لنا أرضٌ (جغراقية)، كان لنا أمل البقاء، وكلما احتفظنا بأرضنا، لن يموت حلمنا في البقاء في الحياة. لكن ما نخشاه اليوم، هو إستغلال الأوضاع المعيشية الضاغطة في سهل نينوى حصرًا، فيتم إجراء عمليات بيع كبيرة لملايين الأمتار، ما يهدّد بفقدان أجزاء شاسعة من الأرض طوعًا أو إكراهًا أو إغراءً، وهذا مؤشر خطير لبداية ضياع الأرض، والهوية، والوجود، كما حصل في التاريخ القريب والبعيد .
وما نراه في الأفق المنظور: أن القائمين على شؤون بلدان المنطقة وسياساتها، يريدون أن يترك المسيحيون، الشرق، بدليل تشريعات حكوماته الضاغطة نحو ترك الأرض والمال، مثل: تصدير دساتير دوله بعبارة: الإسلام هو المصدر الرئيسي للتشريع. وقد رأينا أن العلم العراقي الموشح بآية قرآنية (الله أكبر) التي وضعها صدام حسين لم يستطع أحدٌ من خصومه الأشداء أن يرفضها أو يبدلها، وبعضهم يؤكد أن الدين عند الله هو الإسلام، وتشريع قوانين أسلمة الدولة والمجتمع، وأسلمة الأطفال القاصرين، والكتابة على جدران المسيحيين في الموصل وسهل نينوى: " أخرجوا من ديار الإسلام "، وغيرها من الضغوطات المؤدلجة. كما أن الحكومات ومناهجها التعليمية الرسمية، تشجع في تعبئة الشارع بتكفير غير المسلم، وفي تشريع الضغوطات الاجتماعية والإقتصادية لتهجير الآخر المختلف .
الخلاصةالمسيحيون المشرقيون يهاجرون من الشرق لأنهم يهجّرون منه قسرًا، أي أن علاقة الهجرة بالتهجير هي علاقة نتيجة بسبب، والمهجّر هو الإسلام السياسي الذي نما في المنطقة بشكل غير طبيعي، الإسلام المتطرف الذي يكفّر غير المسلم، الإسلام الذي لا يقبل الآخر المختلف، الإسلام الذي يفرض على غير المسلم ما لا يتحمله اجتماعيًا، وثقافيًا، واقتصاديًا. وإنّ تفريغ الشرق من أبنائه المسيحيين الأصليين الذين كانوا وما زالوا، بناة حضارة، وعناصر نهضة ورقي، لا يخدم حتى مسلميه. وعندما يكون للمسيحي نفوذ ودور في المنطقة التي يعيش فيها، نرى إستقرارًا، وأمنًا، وتطورًا في جميع مناحي الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، لأن الولاء يكون للأرض، وليس للدين أو القومية، أو المذهب، أو الطائفة، أو الحزب. ونرى إن التشبث بالدين، أو أسلمة الدولة والمجتمع، يعني جعل الماضي بكل آلامه وجراحه حاضراً باستمرار، وجعل الحاضر ماضيًا، ما يدفع العقل المسيحي الحضاري إلى هجر الماضي والحاضر (في الشرق) من أجل الغد الأفضل (في الغرب).
والشرق، أو الوطن الأم، يرفضنا يوميًا، ويضغط باتجاه الرحيل منه، وترك ما نملك فيه بشتى الطرق والحيّل والضغوط، وابقاء كل ما يمت بصلة بتاريخنا وأراضينا وأملاكنا ومعاملنا واقتصادنا، للجار الذي لم نذق منه طعم الجار، ولا حتى من سابعه. والقائمون على شرقنا، لا يرغبون ـ كما يبدو من أعمالهم ـ بوجودنا في أرضنا وملكنا وعقارنا، لأننا ببساطة شديدة، مسيحيون أو غير مسلمين. وهناك أكثر من إشارة إلى أن الشرق يقول لنا من دون حياء: اخرج، ليس لكَ مكانًا تحت شمس بلاد النهرين الموشّحة بآثارنا، وأسمائنا، ولساننا. إلا أننا بكل صلافة وثقة نقول لهم: إننا باقون وراسخون، من أجل وجودنا في أرضِ آبائنا وأجدادنا الميامين الذين يرقدون تحت الأرض لنبقَ نحيا فوقها، وليس لهجرها.
وأخيرًا نوّد أن نثير حزمة من التوجسات: ترى هل ما زالت المسيحية المشرقية قادرة على الصمود والبقاء في مهدها؟ وهل أن موت المسيحية هنا، في الجزيرة العربية ، يشكّل سابقة تاريخية لموت المسيحيّة في الشرق الأوسط كلّه؟ ومن هو السبب في مشاكل الشرق الأوسط وعدم استقراره ؟ ثم ماذا بعد داعش؟ وخاصة في محافظة نينوى ذات الإثنيات المتعدّدة.
وفي الختام، نأمل من مؤتمرنا هذا، أن نوفق جميعًا حضورًا ومتكلمين، في إنجاحه، وإصدار توصيات تسعى إلى مقاومة الفكر المتطرف الذي نما في المنطقة بشكل متسارع وغير طبيعي. بحيث لا توجد ثمة محاولة جدية مسؤولة في إيقافه أو الحد من شرّه، توصيات وأراء تسهم في التصدي لواقع التبدل الديموغرافي والجغرافي الذي يعيشه المسيحيون في الشرق. آملين أن لا يكون مؤتمرنا، صرخة انفعالية، بل دعوة هادئة للتفكير العميق في مفهوم الوجود والعيش المشترك، فالأقليات القومية في الشرق بعامة، وفي العراق بخاصّة، تعاني أزمات سياسية وإقتصادية ونفسية كبيرة، تهدد هوياتها القومية والدينية والجغرافية والثقافية، ما يتطلب العمل الجدي المسؤول لتعيش مطمئنة حرة في أراضيها وبلداتها التاريخية.
ونقدّر نحن الآشوريين السريان المسيحيين في كل مكان، ونثمّن عاليًا هذا الجهد الإنساني، وهذه الغيرة الشرقية المتمثلة في عقد هكذا مؤتمرات مطلوبة وملحة. يكفي أن يحسّ الإنسان بشعور الأقلية المضطَهدة، ليكون إنسانًا حضاريًا، وموضوعيًا، وديمقراطيًا. إننا نعي تمامًا أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش من دون أصدقاء وكذلك الأمم والأوطان والشعوب، فالف تحية وفاء لكل أصدقاء الشعب الآشوري حيثما كانوا. وتحية إكبار وإجلال إلى المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات لعقده هذا المؤتمر المعبر عن صوت الأقلية بلغة الأكثرية، الذي يسعى إلى زرع الأمل في نفوس المسيحيين المشرقيين، ويساهم في ترسيخ وجودهم التاريخي في مناطقهم الأصلية في الشرق الأوسط.
أهم المراجع :ـ أبونا، ألبير (الأب)، تاريخ الكنيسة السريانيّة الشرقيّة، ثلاثة أجزاء، بيروت 1993.
ـ أبونا، ألبير (الأب)، أدب اللغة الآراميّة، بيروت 1970.
ـ أبي فاضل، ربيعة (الدكتور)، في أدب النهضة والمهجر، بيروت 2005.
ـ أدونيس، الثابت والمتحول، أربعة أجزاء، الطبعة العاشرة، دار الساقي: بيروت 2011.
ـ أسعد، فائز عزيز (الدكتور)،" تجديد الدور العربي المسيحي "، مجلة مسارات، العدد 14، السنة الخامسة 2010.
ـ بلال، محمد مجيد، الإسلام المبكر في التواريخ السريانية، دراسة مقارنة بين تاريخ الطبري وتاريخ ميخائيل الكبير، دار الرافدين: بيروت 2015.
ـ حبي، يوسف (الأب)، كنيسة المشرق، بغداد 1989.
ـ الحلو، كريستيان (الدكتور)، موجز تاريخ الكنيسة، بيروت 2005.
ـ رسّام، سهى، (الدكتوره)، " جذور المسيحية في العراق حتى دخول الإسلام "، مجلّة مسارات، العدد 14 لسنة 2010 .
ـ سُورو، مار باواي (المطران الدكتور)، كنيسة المشرق: رسوليّة وأرثوذكسيّة، تعريب : الأب أنطوان عوكر، لبنان 2013.
ـ شيخو، لويس (اليسوعي)، النصرانيّة وآدابها بين عرب الجاهليّة، ط 2، دار المشرق: بيروت 1989.
ـ الصائغ، سليمان (القس)، تاريخ الموصل، ج 1، بيروت 2013.
ـ فريحة، أنيس، معجم أسماء المدن والقرى اللبنانية، ط 2، بيروت 1985.
ـ قنواتي، جورج شماتة (الأب)، المسيحيّة والحضارة العربيّة، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، ط 2، بيروت 1984.
ـ عزيز، بطرس (الخوري)، تقويم قديم للكنيسة الكلدانيّة النسطوريّة، بيروت 1909.
ـ مشيخا زخا، كرونولوجيا أربيل، ترجمة وتحقيق: عزيز عبد الاحد نباتي، دار ئاراس: أربيل 2001.
ـ يعقوب الثالث، إغناطيوس (البطريرك)، الشهداء الحميريون العرب في الوثائق السريانيّة، دمشق 1966.
__________________________________