هل القَدَر هو حتمية إلهية أم بشرية في فلسفة وادي الرافدين ؟ وما معنى تعاطينا الحُر مع الأنتماء والحُرية والحُب ؟.
عزيزي القارى لطالما أخطأنا بفهم هذين المذهبين وها هو تعريفهما الحقيقي :
القَدَر "القدريّة" : وهو المذهب الفلسفي الذي يؤمن بقدرة الأنسان على تغيير مصيره وصُنع حياته .
الحتمية "المذهب الحتمي" : وهو المذهب الفلسفي الذي يؤمن بأنهُ لا قُدرة للإنسان على تغيير ما كُتب في السماء وما عليه سوى الإستسلام .
عندما كُنتُ أخدم في كنيسة القديسة تريزا في سوريا أذكر ان فتاةً قامت بزيارتي وكانت خائفة جداُ. سألتها عن السبب فقالت : أبي يريدُ بيعي "تزويجي" لشخص كبير وغني . وأمي تقول هذا هو قدرك ! وهذا الرجل هو قِسمُتكِ وهو مكتوبٌ على جبينك ؟
ولا أُخفيكَ عزيزي القارىء أنني بدأتُ أبحث "بسذاجة" بجبينها عن اسم ذاك الشخص. وقلتُ لها : ولكنني لا ارى شيئاً ؟ لا اسم مكتوب على جبينك "قلت هذا باسماً". المهم أنني طلبت منها ان لا تستسلم لهذا المصير "الذي وضعتهُ أُمها" وان تقاوم . النتيجة انها ضربت أشدّ الضرب من قبل والدها حتى أني لم أُمّيزَ وجهَ هذه المسكينة بعد أسبوع من هذا اللقاء. ولتقولَ لي بكل انتصارٍ "لقد غيرتُ مصيري يا ابونا" ولن أتزوج .
تشوبُ المُجتمعات العربية قُصصٌ غريبة عن سيطرة مَخلوقٍ ما "بُعبُع" او حتى أنسان ذا طابعٍ قُدسي أحيانا لهُ القدرة على إيقاف مسيرة حياتنا والتحكم بها . ولطالما تسآلتُ : من يا تُرى يَكتبَ وما يزال يَكتبُ على الجبين ؟ من يُخططُ حياتنا بكُلِ هذا التنسيق مُنتزعاً هذا الخوف اللاواعي ؟
يقول المثل الشعبي "هذا المطر من ذاك الغيم" وكثرة المصائب والبلايا والشجون "الغيوم" لشعب مُعين هي من أهم العوامل التي تُرّسخ إيمان هذا الشعب بالطواطم "الالهة" الغريبة التي تتحكم بمصائر الناس وإنتمائاتهم . وما قاسى العراقي ويُقاسي الى اليوم ما هو إلا مصائب تدفعه باتجاه الأيمان بذاك المحتوم .
ولطالما عرّفَ علماء الأجتماع الالهة على أنها عامل مهم من عوامل الراحة للقبائل البدائية . فهذا الذي نتعبد لهُ هو المسؤول الأول والأخير عن حياتي . لذا علي ان اتعبد للألهة وأسجد وأُقدم الذبائح الدموية لها "طبعاً دون ان اعمل مع ذاتي" حتى ترضى عني وتُباركني وتُحسن مصيري .
أما إلهَ يسوع المسيح فهو إلهٌ يختلف. َمعهُ لا ترتاح "إحملوا نيري وتعلموا مني". لا يرضى بذبائِحنا "اريد رحمة لا ذبيحة" بل يرغب برحمتنا لذاتنا وللآخرين "من يُعطي كأس ماء بارد .. ". إلهٌ لا يُشعُرك بالطمأنينة المُزيفّة بتاتاً حتى تسعى جاهدا لتُكّّوّن ذاتك وتعمل على إنسانيتك .
إلهُ يسوع المسيح لا يكتُب مَصائِرنا بل يساعُدنا على تَغييرها . لقد صلب المسيح لانهُ رفضَ تلكَ الحَتمية البشرية التي وضُعت لهُ "أن يُصبحَ َكاذباً وخاطئاً كسائر البشر" . إلهُنا ثائر ولذا هو من َسيَفهم الشباب إذا صرخوا والنساء اذا تَحرروا . الهنا ثائر ومُحطمٌ أصيل لطمأنينتنا الكاذبة في هذا العالم .
والى اليوم لا ازال أتذكر والدتي وهي تخطف مسرعة كل الأوراق الرسمية مع مبلغ من المال وما صاحب هذه الأشياء في كيس قديم عند وقوع الغارة "خوفا من الحرق" أثناء الحرب . ولطالما تسآلت حينها عن سرِ هذا الكيس وأهميتهُ الكبيرة لعائلتي ؟. ألعلَ هذا الكيس المتواضع هوَ أهمُّ من أجهزتنا المنزلية ذات السعر الغالي وخصوصاً الطباخ والذي لم تشتره أمي الا بعد ان أشتركت في جمعية "سُلفة" ثقيلة. فما سرُ هذا الكيس ؟.
ونحن ايضاً أحبتي القُراء قد غادرنا سريعاً "بسبب الغارة". ولا أعلم ماذا أخذت معك عزيزي القاريء وبماذا ملأتَ كيسك أثناء الهروب ؟ ولكني أتمنى انك قد َحملت معك ثلاثة أشياء ألا وهي : الأنتماء والحرية والحب .
ثلاثةٌ يعملونَ معاً لتكوينك إنسانياً ومسيحياً . وقد يحصل أنك نسيتَ الأنتماء فسيساعدك الحب والحرية في ان تجدهُ . او أنك أضعت الحرية فسيساعدك الأنتماء والحب "فكل أثنين ثالثهم الحب" . وما انا مُتأكد منهُ عزيزي القارىء هو أنك أضعت واحدة منهم .
لا تخف قال المسيح ، فما زلت تملك أثنين . أعمل على ذاتك واكمل نقصك فغارات ومصائب هذا العالم لم تنته بعد وُكن مثل العذارى ساهراً على زيتك "الأنتماء والحرية والحب" .
فالأنتماء هو الآب السماوي ،اما الحُرية فهيَ الأبن يسوع وما الُحبُ سوى الروح القدس . هذا هو ثالوثك الجديد . ثالوث إنساني مسيحي تصنعهُ بنفسك ، نعم إنهُ ثالوث ذاتك وحياتك .
الأب سرمد يوسف باليوس
كنيسة الرسولين / فانكوفر