الفرضيات الاشورية الوهمية والمنطق القديم تجاه الكلدان
الدكتور/ عبدالله مرقس رابي
بروفيسور في علم الاجتماع
يعد المقال الحالي محاولة تفسيرية وفقا لمنهج تحليل المضمون احد مناهج علم الاجتماع لتحليل الدراسات الاجتماعية والتاريخية .فهي ليست محاولة تحقيق تاريخي ولا التهرب من التاريخ والاستعانة بعلم الاجتماع كما يظن الذين يفتقدون المعرفة الكاملة بطبيعة العلوم الاجتماعية وميادينها الدراسية ,اذ تعتبر الدراسات القومية من الميادين الاساسية في علم الاجتماع للبحث والتحليل.وذلك عن مايكتبه الكتاب الاشوريين والمتاشوريين من فرضيات وهمية لاتستند على المنطق الحديث في التحليل حول تشويه الهوية القومية الكلدانية.
وقد دأب الكتاب الاشوريين المعاصرين على الركض وراء الحقيقة المطلقة ولم يصلوا اليها ولن يصلوا وقد خيل انهم وصلوا اليها لانهم يستندون في قياسهم للظواهر على المنطق القديم والبديهيات المألوفة ,وهذه البديهيات تختلف باختلاف الزمكان وهم لايكتفون بهذه البديهيات المألوفة بل يضعون لانفسهم بديهيات خاصة حيث تصير في أيديهم كالسيوف القاطعة يصولون ويجولون ويهاجمون بها كل شخص يكرهونه ,أو يفندون اية فكرة لاتميل مواقفهم اليها .
نرى هذا واضحا في مقالاتهم وكتبهم ,فاذا احبوا رجلا مناصرا لقضيتهم من رجالات التاريخ رجعوا الى كل عمل قام به أو فكرة فاه بها واخذوا يجمعون الادلة النقلية للبرهنة على صحتها وصلاحها في كل زمان ومكان ,أما الذي لايخدم مصلحة قضيتهم فكل اعماله وأقواله باطلة حتى التي وجدوا مثلها عند كاتبهم المحبوب.
ان مشكلة الاشوريين هي كمشكلة الزمان ,فلو نسألهم (متى بدأ الزمان ومتى ينتهي؟وهل بدأ الزمان من نقطة لم يكن قبلها زمان؟وهل ينتهي الزمان في سيره الى نقطة لا يأتي بعدها زمان؟حكوا رؤوسهم ومطو شفاههم وقالوا لك اودعناك,ولعلهم يخشون ان تذهب بهم الى مستشفى المجانين).هكذا تدور عقولهم في حلقة فارغة لايمكنهم جزم ما يهدفون اليه ومايأتون به.
وما هو المنطق القديم الذي يعتمدونه الكتاب الاشوريين؟
المنطق القديم هو منطق(ارسطو طاليس)الذي بقي مرجع المفكرين في جميع العصور حيث اعتقدوا بانه المنطق العام الخالد الذي لايجوز فيه التبديل والتغيير.والمحور الذي يدور حوله منطق ارسطو القديم هو ما يسمى بالقياس,وهذا القياس يتسلسل تسلسلا تدريجيا من المعلوم الى المجهول أو من المقدمات الى النتائج,فمثلا :
لو اراد أحد دراسة ظاهرة التحضر مستخدما المنطق القديم الاستنباطي للوصول الى الحقائق ستكون احدى بديهياته:
1_يميل المتحضر الى الحوار (مقدمة كبرى)
2_زيد متحضر(مقدمة صغرى)
3_اذن يميل زيد الى الحوار(نتيجة)
وهو يشترط ان تكون المقدمتان صحيحتين لكي تكون النتيجة صحيحة.يعمم الباحث هذه النتيجة دون ربطها بالمتغيرات المستقلة التي قد تؤثر في شخصية زيد من الفروق الفردية والحالة الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية اذ ان هذه البيانات تساعده في اثبات مدى صحة الفرضية أو عدمها كما هو معروف في الطريقة الاستقرائية .فأصحاب المنطق القديم يعتقدون ان الظاهرة شيء جاهز قد انتهى أمره ولذا يعدون حكمهم عليه نهائيا لايجوز التبديل فيه.
يستعمل مثل هذا القياس جريا وراء عواطف الكاتب ومصالحه,فاذا كره شخصا أو جماعة او مجتمعا يتعامل على طريقته المنطقية القديمة,ويستعمل هذا المنطق آلة بيده في سبيل ما يشتهي وما يرغب به,فهو يفرض الثبات في فكرته ويريد الاخرين الاستجابة لمنطقه الساكن ,بينما في الواقع هي متقلبة ومتغيرة من يوم الى اخر ,فهو لايستوعب التناقض في الظاهرة اذ كل شيء هو وليس هو في آن واحد(هيكل).أي ان كل فكرة تحتوي على نقيضها.فالمنطق القديم الذي يلتزمونه الكتاب الاشوريين كما يقول(توماس مور) هو منطق العقائد الموروثة لامنطق المعرفة النامية ولا يصلح لاكتشاف الحقائق الجديدة أو التثبت من صحة العقائد القديمة.وعليه نرى ايضا ان رجال الدين يستخدمون المنطق القديم للتأثير على عقول الناس لينجرفوا وراء افكارهم.ظل هذا المنطق سائدا في تفكير رجال الفكر الى حين ما جاء به عالم الاجتماع الفرنسي(اوكست كومت) 1798-1857الذي ابدع في وضع تسلسل زمني لتطور الفكر البشري(اللاهوتية-الميتافيزيقية-الوضعية).ووضع المنهج العلمي الاستقرائي لدراسة الظواهر الاجتماعية.
من خلال متابعتي للعديد من الكتابات التي طرحت من قبل الكتاب الاشوريين والمتاشورين توصلت وباختصار مقتضب انهم يستخدمون المنطق القديم للتحقيق من صحة بعض الفرضيات الوهمية التي يستعينوا بها لالغاء الهوية القومية الكلدانية.ومن هذه الفرضيات:
1-ان الكلدان قتلوا أو دخلوا الى الاسلام
القياس القديم المعتمد
الذين عاشوا في جنوب بلاد الرافدين من غير المسلمين قتلوا أو دخلوا الاسلام
عاش الكلدان في جنوب بلاد الرافدين
اذن الكلدان قتلوا اودخلوا الاسلام
2-التسمية الكلدانية الحديثة اطلقت على الجماعة البشرية التي رجعت الى احضان الكنيسة الكاثوليكية بعد ان مرت عليها حوالي عشرة قرون تعتقد بالمذهب النسطوري.
القياس القديم المعتمد
النساطرة اشوريون
الكلدان سابقا من النساطرة
اذن الكلدان اشوريون
3-التجمعات البشرية في القرى والمدن المحيطة بنينوى هي آشورية
القياس
الذين يعيشون على الاراضي المحيطة بنينوى هم اشوريون
يعيش الكلدان والسريان على الاراضي المحيطة بنينوى
اذن الكلدان والسريان اشوريون
4-الكلدان طائفة وليست قومية
القياس
النساطرة الذين دخلوا الكثلكةهم طائفة دينية
الكلدان دخلوا الى الكاثوليكية
اذن الكلدان طائفة
5-الاعتماد على ما كتب بين ثنايا الاسطر لمؤلفين من رجال الدين ,أوأقوالهم الشخصية غير المسؤولة,كما جاء به البطريرك روفائيل بيداويذ
القياس
كل ما يصرح به رجل الدين حتى للامور غير الدينية حقيقة
البطريرك روفائيل بيداويذ رجل دين
اذن ما صرح به روفائيل بيداويذ حقيقة
تمعن في الفرضيات السابقة كيف انها تبدو ساذجة بالنسبة الى المنطق الحديث الذي يعتمد على الاستقراء,فهي وهمية لاتستند على التحليل العلمي وذلك للاسباب الاتية:
اولا-تعرض سكان بلاد الرافدين من جنوبه والى شماله منذ سقوط الدولة الكلدانيةفي 29تشرين الاول عام 539ق,م الى القتل والتشريد والتهجير والاضطهاد بدأ من الفرس المجوسين ومن ثم الدولة الاسلامية ومرورا بعهد المغوليين وانتهاءا بالدولة العثمانية.فاذا تعرض الكلدان الى هذه الاوضاع في الجنوب فلماذا لايتعرض الاشوريون اليها ايضا؟اذ ان كل الامبراطوريات التي حكمت بلاد النهرين بسطت نفوذها شمالا وجنوبا ولم تستثن احدا من الاقوام مما تعرض اليه الكلدان.واذا قلنا انهم تحصنوا في الجبال فان هذه الامبراطوريات تجاوزتها كما هو ابان الدولة الاسلامية التي يتحججون بها .لابل العديد منها عبرت الى بلاد النهرين من خلالها.فهل من عاقل يدرك ان الاشوريين استثنيوا من تلك الانتهاكات؟
ثانيا-يتجاهل كتاب الاشوريين حركة الهجرات البشرية التي بدأت منذ خلق البشرية ولاسباب متعددة.لعل اهم هذه الاسباب هي:العوز الاقتصادي الذي يؤدي الى المجاعات, الكوارث الطبيعية,البحث عن الامان من بطش بعض الحكام,الهجرة بسبب التمييز العنصري والديني والقومي للاقوام المسيطرة وهذا ما حدث في الماضي ولايزال قائما في العديد من البلدان.
وكثيرا ما تدلنا التنقيبات الاثرية على ان العديد من المدن والقرى قدبنيت على انقاض قرى اندثرت .فهل من المعقول ان سكان البلدات المحيطة بنينوى حاليا هم من الاشوريين الذين سقطت دولتهم قبل اكثر من الفي وخمسمائة سنة؟نرى مثلا ان تلكيف ومنكيش ودهوك وتللسقف وغيرها بنيت على انقاض قرى اخرى مما يدل على التجديد الديمغرافي في هذه التجمعات السكانية.وعليه ممكن القول ان اعدادا كبيرة من التجمعات السكانية المحيطة بنينوى هم من الكلدان مثلما وجد هناك حاليا العرب,الاكراد,التركمان,الشبك بحكم عوامل الهجرة البشرية.
ثالثا_ الاسرى بسبب الحروب.تعد ظاهرة الاسر من النتائج التي تفرزها الحروب في الماضي والحاضر.يتفق الطرفان المتحاربان على تبادل الاسرىفي الحروب المعاصرة في ضوء الاتفاقيات الدولية ,بينما في الماضي الاسرى لايمكنهم الرجوع الى ديارهم لاسباب اهمها:محاولة الدولة الغالبة تشتيت القوى المحاربة للطرف المغلوب لاضعافه ولكي لايتمكن من الانتقام.استخدام الاسرىكعبيد في الاعمال الشاقة,عدم الرجوع بعد انتهاء الحروب لبعد المسافة وعدم توفر وسائط النقل السريعة مما اضطروا الى البقاء ضمن حدود الدولة الغالبة.تشير الحوليات الاشورية نفسها ان ملوكهم عندما كانوا يغيرون على بلاد الكلدان في جنوب الرافدين اتوا باعداد هائلة من الاسرى وتوزعوا في المناطق المحيطة بنينوى .
رابعا- لو افترضنا جدلا ان التسمية الكلدانية اطلقت من قبل الفاتيكان على النساطرة المتكثلكين.لنتساءل لماذا هذه التسمية دون اخرى؟الا يمكن اطلاق الاشوريون الكاثوليك في حينها؟ولماذا لم يطلق عليهم بابلييون,اراميون,اكديون مثلا؟جميعها كانت تؤدي الى الانشقاق وتحقيق مآرب الفاتيكان كما يدعي البعض.علما ان الوثائق تشير الى ان المطران(طيموثاوس)مطران النساطرة الاوائل في قبرص اطلق هذه التسمية على جماعته المتكثلكة وليست الفاتيكان.ومن جهة اخرى ان التسمية الاشورية لاتتجاوز سنين قليلة اطلقت على الاثوريين الذين سميوا بهذه التسمية من قبل البعثات الانكليزية التبشيرية تنافسا مع البعثات الفرنسيةفي مطلع القرن الماضي بدليل واضح من شهود عيان اذ يذكر(كورش يعقوب)في كتابه في ص 13(اصبح تداول التسمية الاثورية في فترة الحرب العالمية الاولىوكانت تسمية غريبة على الاورميين)ولم يذكر يوسف ملك خوشابا في كتابه(حقيقة الاحداث الاثورية المعاصرة)اية تسمية اشورية.واني ارى ان بعض المتاشورين يتحجج بان المفاهيم القومية لم تكن متبلورة في العالم عندما اطلقت على الكلدان ,نعم لم تكن انما سياسيا فقط لكن تسميات الشعوب كانت قائمة انذاك وايضا نرجع ونقول لماذا هذه التسمية دون غيرها؟ولماذا مركز الكنيسة في ديار الكلدان في ساليق؟
خامسا- لا يعني الانشقاق الذي حصل هو استحداث مذهب جديد,لكن المسالة هي عملية التحول من المذهب النسطوري الى المذهب الكاثوليكي .فالمذاهب المسيحية معروفة لدى الجميع وهي الكاثوليكية والارثودكسية والبروتستانية وتفرعاتها والنسطورية وكل من هذه المذاهب تتضمن عشرات القوميات المختلفة.ولم تكن كلمة الطائفة ملحقة بالكلدان فحسب بل انها ملحقة بكل المذاهب الدينية فهو مصطلح تم تداوله في المخاطبات الرسمية في عهد الدولة العثمانية لكل المذاهب سواء الاسلامية او المسيحية اواليزيدية وغيرها.
ومفهوم الطائفة ماهو الا مصطلح اجتماعي تعني به العلوم الاجتماعية مجموعة من الافراد تتجانس خصائصهم الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والحرفية والدينية.ويطلق على مجموعات دينية واجتماعية وحرفية وبالاخص تم تداوله بشكل واسع في القرون الوسطى ولايزال هذا التداول قائما ,بل انحصر في المذاهب الدينية,اذ سابقا اطلق على المجموعات الحرفية ,مثلا طائفة الحدادين والنجارين وغيرهم.واستبدل فيما بعد بمفهوم النقابة.
سادسا- واما بخصوص الحجة التي يتذرع بها الاشوريون المعاصرين المرتبطة ببعض مايكتبه رجال الدين بين ثنايا الاسطر.أو مايتفوه به .هو عين الصواب انهم لم يتحرروا من عقدة المنطق القديم ,اذ ان الفكر الحديث تحرر من الميثولوجيا وسلطة الكنيسة منذ القرن السادس عشر انما هم يتحججون بما يقوله رجل الدين .اذ ان سلطة رجل الدين هي ضمن حدود المؤسسة الدينية فقط ,ففي المسيحية تقتصر سلطته على ممارسة الاسرار الكنسية المعروفة ولاتتجاوز الى المسائل السياسية والاجتماعيةوالمالية والنفسية وغيرها.ولما كانت القومية والطائفة مفاهيم اجتماعية وسياسية اذن ليست من اختصاص رجل الدين.وحتى اذا كتب اوتفوه بامور غيردينية لسنا ملزمين الانصياع لذلك مطلقا لعدم تمتعه بسلطة دنيوية على افراد المجتمع.وهذا ما اكده ملك خوشابا المعروف عن عدم تمتع مار شمعون بسلطة دنيوية على الاثوريين في مخاطباته الرسمية انذاك مع الحكومة العراقية.فكيف يريد الاثوريون منا في عصر التنوير والمنطق الحديث ان نستجب لما تفوه به البطريرك روفائيل بيداويذ قبل حوالي عشرة اعوام في مقابلة تلفزيونية(كان جدي نسطوري ونحن طائفة).
لنسأل كم من الكتب العلمية اصدر بيداويذ في الشأن القومي والاجتماعي والنفسي والسياسي وحتى التاريخي لكي يتوصل لما تفوه به؟واذا كان جده نسطوريا فهذه ذريعة ساذجة اذ ان اجدادنا كانوا جميعهم نساطرة .ولماذا لم يسأل بيداويذ نفسه من كانوا هؤلاء النساطرة؟وقد كان ضمن النسطورية اقوام متعددة من العرب.الكرد,الاثوريين,الكلدان,التركمان,الافغان وغيرهم .وهذادليل واضح على النقص المعلوماتي له .ولا يعتبر هذا التصريح تصريحا رسميا بل انه موقف شخصي وليس شاملا يتعلق بالامة الكلدانية فالتشبث بما قاله ليس سوى هراء فلم يمثل احدا في قوله الا نفسه.لو كان حريصا على شعبه لاستقر وشارك معاناته في العراق في ظل الحصار الاقتصادي والهجرة والتهجير.بل انه فضل الاستقرار في جبال لبنان حيث الراحة والطمانينة.
سابعا:اما عن المسالة التي يثيرونها في كل المناسبات لايوجد تاريخيا شعب بتسمية الكلدان وانما هم جماعة مارسوا السحر والتنجيم.لست الان بصدد السرد التاريخي فيما يخص الموضوع لكي لااخرج من الاطار الفكري لاختصاصي.بل من مراجعتي المستفيضة للكتب التاريخية تبين ان وجود الكلدان تاريخيا هو قبل الاشوريين وليس الاشوريين الا جماعة منشقة من الكلدان وتوجهوا الى موقع اشور الذي سمي نسبة الى الاله اشور ,حاليا الشرقاط وثم عرفت الجماعة المنشقة نسبة الى هذا الاله.ولم يطلق على الاله تسمية اشور لان الاشوريين عبدوا هذا الاله انما العكس اطلقت تسمية الاله اشور على مجموعة بشرية.
وانثروبولوجيا لا بد هناك سببا لاطلاق تسمية على المجموعة البشرية كما هو سائدا في النظام العشائري,ولم يكن لكل جماعة تكونت تسمية خاصة بها من الخالق وانما بمرور الزمن تسمى باسم ما ولسبب ما.
خلاصة القول ارى ان الذرائع التي يتحجج بها الاشوريون ماهي الا فرضيات وهمية لا تستند على اسس المنطق العلمي الحديث .بدلا من دورانهم في حلقة مفرغة التوجه نحو التعاون والوحدة مع الجماعات العرقية لشعبنا ,الكلدان والسريان والاشوريون. لا لالغاء الاخر وان لاتكون الوحدة على حساب التسمية كما فعل المجلس الكلداني السرياني الاشوري.بل نريد ان تكون وحدة حقيقية فعالة تهدف الى توحيد القرار السياسي لكي ينال شعبنا حقوقه الكاملة على ارض اجداده.والا ان النمو الديموغرافي السلبي هو مؤشر خطير على شعبنا.