Jun 26, 2012
العقل نور الحكمة
الأب سعيد بلو تم نشر مقالة مار سرهد يوسپ جمّو بالإنكليزية وترجمتها بالعربية:
"النهضة الكلدانية: رؤية أساسية موجزة"
ولما كانت مادة هذه المقالة غنية ومتشعِّبة، في طيّها نقد صريح وبنّاء ونبذة تاريخية قيِّمة قومياً وكنسياً ووصف جغرافي دقيق لِبَين النهرين وتحليل علمي للغات الأقوام الذين حملوا مشعل الحضارات المتعاقبة منذ لا يقل عن سبعة آلاف سنة.
آنست الشجاعة في مار سرهد بتبيان آرائه العلمية المختصرة في كل ما جاء أعلاه خاصة في هذه الظروف الأليمة التي يمرّ بها شعبنا الكلداني المحارَب والمحارِب. بيد أن تضارب آراء القُرّاء في هذا الصدد أهاب بي إلى إصدار حلقات عمّا ورد في متن هذه المقالة آملاً بكل تواضع أن تتّسِم بالحكمة والمحبة والوِقار مستنيراً بما قاله Thomas Paine: "إني أحترم وأدعم دائماً وأبداً حق أي إنسان آخر في رأيه مهما كان ذلك الرأي مخالفاً لرأيي. فمن ينكر حق الآخر في ذلك يجعل نفسه عبداً لرأيه الحاضر لأنه يجعل مستحيلاً حق تغيير ذلك الرأي. إن أمضى سلاح ضد أي نوعٍ من الأخطاء هو العقل. إنني لم أستعمل أي سلاح آخر عداه ولا زلتُ واثقاً بألّا أستعمل غيره."
على ضوء ما جاء أعلاه إليكم أيها الأحبة:
الحلقة الأولى
عودة كنيسة المشرق إلى إيمانها الكاثوليكي
من الأوباء العلمية والإجتماعية أن ننزلق في تضليل شعبنا في غياب المعرفة خاصة وأن غالبية الشعب عديم الثقافة أو محدود فيها. ويلتجئ حاملو مثل هذه المشاعل المظلمة إلى أغراضٍ في النفس يصعب أحياناً سبر غورها الحقيقي. وإنما عند تحليلها يبدو من وراء ذلك النقاب العاتم بعض الأهداف التي ينشدونها من مراميهم كالغرور والظهور والكبرياء والتعويض عن عاهات في النفس وإخفاء مبادئ كانوا سابقاً يحملونها وإنهارت، فينسابون وراء إبراز شخصياتهم بثوبٍ جديد يعتبرونه قشيباً لكي لا يبقى أثر للعيب العتيق.
فيشهرون سيف العدى رغبة في تحقيق أهدافهم لأجل النجاح فيما يسعون إليه أو ربما يؤمنون به في غياب المعرفة ناسين أو متناسين أن الرغبة ليست كالمعرفة التي يعوّل عليها إذ تسكب الأنوار في إجلاء الحقائق التي نريد أن تستنير بها الأمة. إن الذي يهيب بمثل هؤلاء عاطفياً تحقيق أهدافهم بالرغبة لا يمكن أن يكتب لها النجاح مستقبلاً، إذ لا بد أن تنكشف الحقيقة في غياب المعرفة العلمية والتاريخية. وعندما يتباهى الواحد منهم أن يقنع الآخرين فيما يصبو إليه في غياب المعرفة يتسكّع في ظلام عواطف نفسية Psychology هيهات أن تنسجم مع أنوار الفلسفة Philosophy.
رحمة الله على العقاد إذ أشار إلى نظير هؤلاء في كتابه "مذهب ذوي العاهات"، أصابت مثل هذه العدوى بعض أحبائنا الكلدان والآثوريين والسريان إذ شوّهوا الحقائق كي يتبجّح كل واحد بإسمه غير مبالٍ أو خجل من التزوير في المجالات العلمية والتاريخية العالمية والقومية..
في هذه الحلقة لن أسعى سوى إلى تبيان جانب من هذه الحقائق محاولاً قدر المستطاع إستخدام الحكمة النابعة من العقل كما قلت أعلاه لإيضاح الجوانب الأخرى في الحلقات القادمة!
إليكم الآن أيها القرّاء الأعزّاء شرحاً تاريخياً موثّقاً بشأن عودة قسم كبير من كنيسة المشرق إلى إيمانه الكاثوليكي الأصيل المؤسَّس على هامة الرسل مار بطرس ورسول الأُمم مار بولس اللذين إستشهدا في المدينة الخالدة روما:
"أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي وقوات الموت لن تقوى عليها"متى 16: 18
فكنيسة المشرق لم تنفصل عن الكنيسة الأم أبداً حيث كانت حتى القرن الخامس متحدة معها كلياً ولكن الذي حدث أن إبتعدت عن كرسي روما مما أدى فقط إلى إنعزالها عنه إثر تبنّيها مبادئ البطريرك نسطوريوس (428-430) الذي إشتهر بقوله أن في المسيح طبيعتان وإقنومان بشخص واحد وأن لاهوت المسيح ليس الناسوت وصار الناسوت هيكلاً للاهوت ومسكنه. ومن ثمة فأن مريم لا يجوز أن تُدعى أم الـله بل أم المسيح لأنها لم تلد اللاهوت بل ولدت شخصاً هو إله وإنسان معاً. وكان هذا رأي أغلب العلماء الذين إشتهروا في إنطاكيا ونواحيها مثل ديودوروس أسقف طرطوس (378-394) وتئودوروس أسقف مصيصة (390-428) لقد خالف نسطوريوس بهذه الآراء التقليد الجاري في الكنيسة جمعاء ووضع مفاهيم سر التجسّد والفداء في خطر عليه فإن إيمان الكنيسة رفضها وتمّ في المجمع الخلقيدوني (451) تأكيد المعتقد الكاثوليكي في هذه العبارة: في المسيح طبيعتان إلهية وإنسانية متّحدتان بدون تغيير ولا إنفصال ولا إمتزاج وأقنوم واحد إلهي. ورغم إبتعاد كنيستنا عن كرسي مار بطرس، كانت روما من جهتها تختار عام 514 الشماس هرمزد الكلداني الأصل المترمّل (كان والده تاجراً بين النهرين، هاجر إلى إيطاليا وسكن فروزينون بالقرب من روما حيث ولد هرمزد). إنتُخبَ پاپا لها ودامت حبريَّته إلى 523 ومات مشهوداً له بالقداسة. وخلفه بعد سنوات قليلة على السدة البطرسية إبنه سيلڤيريوس عام 526 لكنه لم يدم إلا سنة واحدة ومات أيضاً بِعُرف القداسة.
ورغم إنعزال كنيسة المشرق عن الكنيسة الأم لتبنّيها المبادئ النسطورية كما جاء أعلاه بيد أنه لا يخفى أن التأثيرات السياسية كان لها اليد العليا في ذاك الإبتعاد. إلا أنها بقيت روحيا وطقسياً أمينة لكنيسة المسيح المؤسَّسة على كرسي بطرس في روما حيث تؤكِّد ذلك الصلوات الطقسية الدائمة في ܚܘܖܪܐ "الحوذرا" كلداني حيث ورد فيها أكثر من عشرين مصدراً نقتطف منها بعض الأمثلة التالية:
النص الكلداني
بطرس رئيس الرسل وبولس رسول الأمم أكملا في روما المدينة العظيمة مسيرة أعمالهما.
النص الكلداني
إثنان من الرؤساء الغَيارى إستأصلا الضلال وزرعا السلام في الكون، بطرس هامة الرسل مؤسس الكنيسة وبولس رسول الأمم كلاهما إستشهدا في روما من قبل نيرون.
النص الكلداني
المجد لك يا ربنا لأنك شيّدت الكنيسة المقدسة على دعامتيها بطرس وبولس.
النص الكلداني
تنشد روما أن الكنيسة مبنية إلى دهر الداهرين ولا تقوى عليها لا الملوك ولا السلاطين.
كما يؤكد مار سرهد جمو ذلك في مقالته: "كنيسة المشرق بين شطريها" ص3 و4 و9 ما يلي:
((أما علاقة كنيسة المشرق بالكنيسة الكاثوليكية الجامعة فكانت علاقة الجزء بالكل وعلاقة الطرف بالمركز، وقد جاء هذا الموقف صريحاً في مجمعين عُقِدا في المدائن، الأول في سنة 410 والثاني سنة 420، حيث أعلن أساقفة المشرق رغبتهم في الإتفاق مع الآباء الغربيين على كل شيء سواء في أمور الإيمان كما في شؤون التنظيم الكنسي، "لكوننا أعضاء جسد واحد هو المسيح". (كتاب المجامع، ص40 من النص). كما ويعلن أساقفة المشرق إلتزامهم بكافة القوانين التي وضعها الآباء الغربيون إبتداءً من مجمع نيقية سنة 325.
ترى ما هو المقصود بعبارة "الآباء الغربيون" التي ترد بتواتر في متن هذين المجمعين؟
إن دراسة النص الدقيق تقدم دلائل وفيرة على أن المقصود بالآباء الغربيين هو أساقفة الإمبراطورية الرومانية عموماً. فكنيسة المشرق وإن لم ترتبط يومذاك إرتباطاً خاصاً بمركز معين خارج حدود الإمبراطورية الفارسية إعترفت رسمياً بإنتمائها إلى الكنيسة الجامعة ككل، كما إعتبرت ذاتها جزءاً متصلاً بهذه الكنيسة. ولذا يضلّ من يعتقد أن كنيسة المشرق كانت بادئ الأمر مرتبطة بكرسي إنطاكية إرتباط الفرع بالجذع، وإن كان هذا لا ينفي وجود العلاقة الحميمة بين الكنيستين المشرقية والإنطاكية والتأثير المتبادل بينهما لاسيما في القرون الخمسة الأولى. (عن نشأة كرسي المشرق، راجع ترجمتي لمقالة وليم دفريز، في مجلة بين النهرين 1975، عدد 9-10 ص5-32).
ولا بد لنا من الإشارة هنا إلى أن روابط العلاقة بين كنيسة المشرق والكنيسة الغربية كانت تتأثر كثيراً بالأوضاع السياسية المتزامنة وبطبيعة العلاقة القائمة يومذاك بين الدولتين الغريمتين؛ الرومانية والفارسية، ولم يكن المجمعان المذكوران إلا مظهراً من مظاهر هذا التأثر، ذلك لأن المجمع الأول إنما إنعقد برغبة العاهلين: الروماني تيودوسيوس الثاني، والساسان يزدجرد الأول، ويبدو أن يزدجرد حاول أن يستخدم رعاياه المسيحيين كجسر للتفاهم مع العاهل القسطنطيني، كما يبدو أن فتح الحدود بين كنيسة المشرق والغرب المسيحي إنما توخى العاهل الساساني من ورائه البرهنة على الحرية التي يتمتع بها المسيحيون في بلاده والتدليل على الرعاية التي يخصّهم بها.
أما في عهود العداء بين المملكتين، فقد كانت كنيسة المشرق تضطر إلى الإنطواء على ذاتها، لئلا تصبح علاقتها مع الغرب المسيحي سبباً للتشكّك في ولاء الرعايا المسيحيين لدولتهم أو فرصة لوضعهم في موقف حرج أمام السلطة المدنية الوثنية أو مبرراً لكهّان النار الزرداشتيين لإثارة الإضطهاد عليهم، وكم كان سهلاً يومذاك، بل ولا زال حتى اليوم، الخلط بين الدين والدولة، والخلط بين التعاطف الديني والولاء الوطني.
وقبل أن ننقل الحديث إلى نقطة أخرى، علينا أن نذكر هنا أن بطريرك المشرق، مع رغبته في توثيق العلاقات بينه وبين الغرب المسيحي وإعترافه بأن كنيسته جزءٌ من الكنيسة الجامعة متصل بها إتصال الجزء بالكل، كان يعتبر لجوء أساقفته إلى الغرب المسيحي، كلما جرى بينه وبينهم خلاف، إحراجاً لموقفه أمام شعبه وإضعافاً لموقفه أمام السلطة المدنية، ولذا فقد أعلن مجمع داديشوع سنة 424م أن بطريرك المشرق هو المرجع الأعلى والأخير لكنيسته وأنه لا يُحاكم إلا أمام منبر المسيح (المجامع، ص44-47).
"في بلاد ما بين النهرين، آثور وكلدو، حيث مكث (المُرسَلان) فترة ثلاث سنوات، واعظين بكلمة الـله، بيقظة واتعاب جمة، تلك الشعوب التي كانت تعتنق خطأً نسطوريوس الذي نسبةً إليه دعوا نساطرة، معلمين ومهذبين إياهم في نزاهة التعليم الكاثوليكي... حتى أنهم أضحوا يستنكرون إسم نسطوريوس، ويرغبون في أن يدعوا كلداناً (عند فوستي، حوليات رهبنة الوُعّاظ الدومنيكان، المجلد 32 (1952)، 4، ص1-30). يتضح إذاً من جديد في هذا النص كيف أن أبناء كنيسة المشرق هم الذين رغبوا في أن يدعوا كلداناً، وليست روما هي التي "أنعمت" عليهم بهذا الإسم.)).
وخُلاصة ما أريد تصحيحه في هذه الحلقة هو خطأ من يروِّج أن الكنيسة الكلدانية مزّقت كنيسة المشرق عندما عادت إلى الكثلكة وأن روما فرضت إسم الكلدان عليها لأن الحقيقة التي يجب أن يعرفها كل كلداني وآثوري هي أن الذين إعتمدوا أول بطريرك يوحنا سولاقا بلّو قرروا العودة إلى الكنيسة التي أسّسها الرب على الصخرة في روما حيث إستشهد هامة الرسل مار بطرس ونحن منها كما ورد أعلاه في عدة وثائق تاريخية وطقسية ومجامعية، عليه ففي إتحادنا مع الكنيسة الكاثوليكية الأم في روما إعادة لمجد كنيسة المشرق.
لنسأل الرب الإله في صلواتنا كي يُلبّي نداءنا الأخوي الحميم ضلعا الكنيسة الشرقية الباقية للعودة مثلنا إلى مجد آبائنا العظام في كنيسة المسيح بالمدينة الأبدية روما.