Dec 18, 2012
العقل نور الحكمة
عن النهضة الكلدانية: رؤية أساسية موجزة
رؤية شاملة عن أبعاد هذه النهضة
-الحلقة الرابعة-
الأب سعيد بلو
إستوقفت القارئ الكريم في الحلقة الأولى لأستثير ذكرياته في حقيقة كنيسة المشرق منذ بداية المسيحية وعودتها إلى الكنيسة الكاثوليكية الأم. ثم مررت مرور الكرام في الحلقة الثانية في نُبذة تاريخية عن البطاركة الشمعونيين في قوجانس وكيف عبّروا عن ذاتهم في أختامهم بلقب بطريرك الكلدان. أما في الحلقة الثالثة وَدَدْتُ أن أُحلِّق في آفاق المُفكِّرين والمؤرِّخين عَلَّني أحضى بإراحة شعبنا عن تساءله وتوقه لمعرفة أن لغة السواد الكلدانية هي آرامية بلاد الرافدين.
أما في هذه الحلقة فسوف أسعى لأستشف ما وراء الأُفُق في رؤية مار سرهد عن نهضتنا الكلدانية التي نحن في مسيس الحاجة ليس فقط لمعرفتها وإنما لإحيائها ومُشاهدتها مُشعّة من جديد بألق جمالها التأريخي ومباهج جنائنها التي شوّهها المشوّهون.
كما آمل أن يكون في مقدوري الإستجابة إلى تساؤلات القُرّاء الأعزّاء ذوي الإرادة الصالحة وفي أعماقي حنين يحدوني رؤية أمتنا مدنيا وكنسياً مُزدهية رغم الغبار الذي يثيره بعض المنحرفين.
وفي هذا المسعى إستهوتني الإنسكلوبيديا (الموسوعة) الحديثة القياسية الصادرة من شيكاغو في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث عثرت في ص 203-204C على خُلاصة عن كلدو Chaldea. وبوجدان المسيحي المشرقي الكلداني الذي يتلذذ بإستذكار الجذور والجدود أنقلها بلغة القلب وأنوار الفكر كي يستنير بها أبناء وأعداء تلك الأمة الخالدة خاصة وإن علماء أجانب أو مستشرقين (وليسوا من الكلدان) كتبوا ونشروا هذه الحقائق والمآثر التأريخية.
أ- كلدو Chaldea "هو الإسم الأقدم لإقليم بابل الجنوبي، مؤخّراً جداً وابّان الإمبراطورية البابلية الثالثة (625-539ق.م.) أصبحت كل بابل تُسمّى كلدو Chaldea.
وكان الكلدان من الشعوب السامية منذ أقدم الأزمنة إستوطنوا بابل وحكموا حتى الخليج الفارسي. إن أور UR الكلدانيين كما جاء في التوراة كانت عاصمتهم حتى 2300ق.م. إلى أن خلفتها بابل.
عام 721ق.م. مردوخ بالادان الكلداني تمرّد على الآشوريين الذين كانوا حينذاك يسيطرون على المملكة وأعلن نفسه ملكاً على بابل ودام ملكه فيها 12 سنة ثم إعتزل في جنوب المملكة.
نبو بولاصر سليل مردوخ بالادان إستطاع تدمير آشور في هجومه عليها سنة 612ق.م. وفي عهد نبوخذ نصر إبن نبو بولاصر أصبحت بابل عاصمة أعظم إمبراطورية سُميّت بابل الثانية أو الإمبراطورية الكلدانية وإنتهت هذه الإمبراطورية سنة 539 ق.م. عندما إحتل بابل ملك الفرس كورش الكبير.
وفي عهد متأخر كان إسم الكلدان يشير إلى علماء الفلك والتنجيم أو إلى "الحكماء"، وفي التوراة يستخدم كتاب دانيال هذه الكلمة بهذا المعنى، وقد ظهرت هذه التسمية للوجود لإشتهار البابليين في علم الفلك.
ب- نبوخذ نصر الثاني Nebuchadnezzar II
من ص 125-126 N أنقل فقط بداية ما كُتِبَ عنه لإعلاء شأن هذه الأمة الكلدانية الأعظم بالتاريخ: "نبوخذ نصر الثاني (562BC) كان ملك الكلدان على بابل وخلف والده نبو بولاصر سنة (605BC) إلخ..." لا سيما وأن أديبة ومؤرِّخة بارزة في الأكاديمية الفرنسية ألّفت عنه كتاباً لامعاً أذكر فيه مقطعاً بسيطاً شامخاً شموخ جنائنه المُعلّقة إحدى أعاجيب الدنيا السبعة قائلة: "إن نبوخذ نصر كان أعظم الملوك في عصره وإن نابليون إقتبس منه الكثير وسار إثره في عظمته إلخ..."
لا مرية أن مأربي في هذه المقدمة الطويلة هي مسبقاً دعم للنهضة الكلدانية أعلاه التي جمع فيها مار سرهد جمّو مُجلّدات من الحقائق في صحائف يحدوه الزهو القومي والغيرة الرسولية وشجاعة يوحنا الرسول في سفر الرؤيا (13: 1-7) حيث يُجابه الإضطهادات الموجَّهة من السُلطات الزمنية والدينية وأعداء القومية والتي تجسّد الوحش التنيني مؤمناً بأنها لا بد أن تندثر.
1- ملاحظة الكلدان أنفسهم في فحاوي جميع فقراته يوقظنا سيادته من السُبات العميق العتيق وينهال بسياط اللوم لمآل شعبنا في الخنوع والإذلال على جميع الأصعدة الدينية والمدنية والقومية والتعايش كعبيد مع العرب والأكراد وليس كمواطنين من أشرف مَوئِل في أصالة الرافدين وبعبارات قاسية يقول:
"نحن أنفسنا قد أهملنا حضارة أسلافنا وكنوز كنيستنا والكرامة الناتجة من إدّعائنا أننا أصحاب أعظم تراث مدني وديني إذ نلتجئ إلى إقتباس الأفكار والمُمارسات من الأمم والكنائس الأخرى وننتهي بأن نضحي فريسة للدخلاء."
وفي سبيل المجد لا بد من رباطة جأش للسير في تأريخنا القومي والكنسي لتبيان في حرية الكلمة وعبر لمعات من الرؤى الظلمات والظلال التي غمرته عبر الأجيال وأنشد مع المعرّي:
"ألا في سبيل المجد ما أنا فاعلُ عفاف وإقدام وعزم ونائلُ"
هناك بُعدٌ شاسع بيننا وبين شعبنا الآثوري خاصة من الناحية القومية حيث كنا كما قلت أعلاه في سُبات عميق منطوين على أنفسنا وناشطين لغيرنا أو منعزلين فقط في الحياة الكنسية التي أستطيع أن أقول تكلّلت بالنجاح والإزدهار في مضمار الدين رغم بعض قزعات من الغيوم الداكنة خاصة في العقد الحاضر. في الوقت الذي إستطاع الشعب الآثوري أن يجمع كليهما بنجاح أي بين الوجود السياسي القومي وهرم الكنيسة المجيد ودفع الثمن غالياً عبر الإضطهادات والمجازر يندى لها جبين البشرية ولا زالوا منتظمين يجاهدون بمرارة وشجاعة لا نظير لها للوصول إلى أهدافهم في بناء "وطن حر وشعب سعيد". ولا بدّ أن أنقل مؤيّداً ما قاله مار سرهد بهذا المعنى: "أن الإعتراف بهذا الواقع التاريخي وتثمينه يجب أن يكون الموقف الواضح لكل كلداني مثقّف."
إن عظمة أمتنا الكلدانية التي خلّدها التاريخ كما جاء في الإنسكلوبيديا (الموسوعة) أعلاه وفي غيرها كما دوّنه مؤرّخون وأدباء قلة من الشرق وكثرة من الغرب لم نساهم في الماضي فيها لا بل لم يستيقظ ضميرنا حتى ننشرها ونعلمها لنسلنا الذين كم وكم سألونا: من هم الكلدان؟ دفعاً للجحود لا بد من ذكر بعض من دبّجوا مدى الزمان الغابر أمجاد أمتنا في سفر الوجود منهم:
"التوراة، تاريخ كلدو وآثور بجزئين لمثلث الرحمات الشهيد أدّي شير، هل ستموت هذه الأمة للمرحوم الأب يوسف نعّوم وتاريخ الكلدان للكردينال تيسران إلخ...
أما نداء النهضة الكلدانية التي يلتظي مار سرهد بلهيب تأجّجها فقد إندلعت في عصرنا العتيد وبان في الأفق نجوم سطعت فيهم الحمية والنخوة القومية فحفروا في مناجم التاريخ حيث عثروا على الماسات المفقودة وهي الأن معروضة في أسواق الراغبين برّاقة تسحر الألباب في أرجاء الكون أينما يقطن الكلدان.
وأذكر منهم في سبيل المثال لا الحصر:
مثلث الرحمات المطران إسطيفان بلّو، المرحوم الأب يوسف بابانا، الأب ألبير أبونا، المرحوم د. الأب حنا شيخو، الأستاذ جورج البناء، الأستاذ حبيب حنونا، الأستاذ عامر حنا فتوحي، الشماس د. كوركيس داود مردو، إلخ....
وهناك في عصرنا أيضاً العديد من الكُتّاب نشروا مقالات قيّمة بهذا الصدد في مجلة بين النهرين ونجم المشرق وغيرها من الصحف.
إننا نتبجح ونتباهى بما نقدمه لكنيستنا (ونزراً لا يُذكر لقوميتنا) بيد أني أشعر بضآلة عطائنا إزاء ما لمسته خاصة دور العِلمانيين في الطوائف الأخرى مما يقدمونه على الصعيد القومي والكنسي من غيرة إيمانية وتضحية متناهية وإنطلاقة رسولية علاوة على شتّى وسائل الاعلام!... في سبيل خدمة مثالية تكتمل بالعمل الكؤود عن طريق التكاتف الوثيق بين الكاهن والعلمانيين.
أدعو أحبائي القُرّاء للرجوع إلى الحلقة الخامسة – الإنتماء في دندنة فوق المذبح – المنشورة في
www.kaldaya.net للإستنارة أكثر بفضيلة العطاء.
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة.